دراساتصحيفة البعث

من مصادر الفوضى الحالية في العلاقات الدولية

باسل الشيخ محمد

من النادر أن يقوم نشاط بشري، أو يفسر على بعد واحد فقط، إذ غالباً ما تتضافر العوامل النفسية- على اتساعها- والموضوعية، والعوامل المباشرة وغير المباشرة مع بعضها ضمن السلوك الواحد، وليس لنظرية واحدة أن تفسر السلوك الإنساني، أو كيفية سيره في حياته.

إذاً فما مصدر الفوضى في العلاقات الدولية منذ أن كانت القبائل تسكن الأرض في العهود السحيقة وحتى تاريخ كتابة هذه الكلمات؟ وهل هذه الفوضى في العلاقات الدولية متعمدة، أم أنها السمة الحتمية لتفاعلات الدول بين بعضها، وخاصة الدول الكبرى بالدول النامية ودول العالم الثالث؟.

يفسر البعض أن غياب السلطة المركزية على الدول قاطبة في كوكبنا هو مصدر الفوضى في العلاقات الدولية، وهذا رأي صحيح، ولكن ديناميكية نشوء الفوضى تمر في الوقت الراهن عبر ثلاث مراحل، منها الملموس، ومنها المحسوس، ومنها الاقتصادي، ولا شك في أن هذه الديناميكية تمر بمراحل أخرى، إلا أن تركيزنا ينصب مؤقتاً على هذه المراحل الثلاث التي نحاول من خلالها مقاربة الاتجاه الحالي للفوضى السائدة في العلاقات الدولية في زماننا هذا.

العالم بوصفه يابسة كبيرة

“من الآن فصاعداً، وبعد أن ولى عهد كولومبوس، بات علينا أن نتعامل مع نظام سياسي محكم يتسم بنظرة شمولية تغطي الكرة الأرضية برمتها، وذلك لأن أياً من إرهاصات القوى الاجتماعية في أي ركن من أركان المعمورة لن يكون قاصراً في تأثيره على مدار محيط انفجاره، بل سيمتد ذلك التأثير إلى أقاصي الأرض”.

بهذه الكلمات عبر هالفورد ماكيندر عن رؤيته الجيوبوليتيكية للعالم، تلك الرؤية التي ستعتنقها عدد من الإدارات الأمريكية، وتنص تلك الرؤية على أن السيطرة على العالم تتم عبر السيطرة على قلب هذا العالم البالغة 3309 مليون كيلومتر مربع تمتد من هضبة التيبت ومنابع أنهار جنوب شرق آسيا وأوراسيا، وفي ثنايا نظريته نقرأ أن من يحكم شرق أوروبا يسيطر على قلب العالم، ومن يسيطر على القلب يسيطر على الجزيرة العالمية (أي اليابسة)، وعليه فإن من يسيطر على جزيرة العالم يسيطر على العالم، وهذه النظرية البراغماتية البحتة كانت ذات أثر على الحركة النازية التي حاولت بدورها الوصول إلى قلب العالم كما رآه ماكيندر، ورغم أن ماكيندر نفسه نفى أن يكون ملهماً للنازية، إلا أنه طرح هذه المبادئ في مؤتمر صلح باريس عام 1919 مناهضاً رؤية الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن الذي قال بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ومن وجهة نظر سلوكية يبدو هذا احتكاراً جهوياً للسيطرة لا يجب أن تقوم به النازية دون الولايات المتحدة!!.

لم يأت الاجتهاد لتعديل هذه النظرية حتى جاء زيبينغو بريجينسكي الذي قال في كتابه “رقعة الشطرنج العظمى” الصادر عام 1997 بأن الجيوبوليتيك قد انتقل من البعد الإقليمي إلى البعد العالمي، وفي اجتهاده ذاك قال إن السيطرة يجب أن تكون على كامل قارة أوراسيا وليس على أجزاء منها.

ولئن دار الظن عن أن النازية تأثرت بالنظرية الماكيندرية فإن إدارات أخرى في الولايات المتحدة تبدو مهتمة بنظرية بريجينسكي الذي كان من أعتى مؤيدي التدخل في ليبيا، وإلا فلماذا يدخل الشرق الأوسط ومعه بعض دول شمال أفريقيا، (كما تسمي الإدارات الأمريكية الوطن العربي)، في صراعات يراد منها ضم هذه البقعة من الأرض إلى سيطرة القطب الأمريكي بشكل قسري؟.

ما لم يلمحه ماكيندر هو أن حلمه في السيطرة على “قلب العالم” لن يأتي بسهولة، فهذه البقعة من “اليابسة” التي نظّر للسيطرة عليها تمتاز ببعدها عن مكان وجود الإدارات الطامعة، فضلاً عن تضاريسها التي لم يأخذها في حسبانه، ألم يتذكر أن مناخ موسكو منع كلاً من نابليون وهتلر من احتلال العاصمة الروسية؟ وهل نسي أن القوات البريطانية عانت من نقص الإمدادات والتموين وهي تزحف على التيبت؟.

لم يكن ماكيندر ليتنبأ أن العقيدة الشيوعية في دول آسيوية ستقف في وجه محاولات السيطرة على تلك البقعة الهامة، في حقيقة الأمر، تمخض هذا عن فوضى في العلاقات الدولية اتسمت بالصراع، ولا سيما في حقبة الحرب الباردة، لم يطل الأمر حتى تفتق ذهن الأكاديمي الأمريكي البارز جوزيف ناي عن فكرة أخرى تمتد هي الأخرى إلى بقاع العالم كما كان يأمل، إنها فكرة القوة الناعمة.

العالم بوصفه مجموعة من الأفراد

هذا الاصطلاح يطلق على القدرة على التأثير في سلوك “الآخرين” عبر الجاذبية، من مصادر هذه الجاذبية تعميم سلطة وتأثير الفنون والآداب، فضلاً عن الدبلوماسية، سبب نشوء هذا الاصطلاح هو أن الدول القوية لا تستطيع في جميع الأوقات حمل تبعات استعمال القوة العسكرية، تلك القوة الصلبة التي بات استعمالها أكثر ما يكون للردع أو التخويف عبر التلويح باستخدامها، يقول كثيرون إن العولمة الثقافية هي إحدى قنوات تمرير القوة الناعمة، والعولمة الثقافية، وإن لم تكن مواجهة مباشرة في معظم الأحيان، إلا أنها استعملت لتسخين الأوضاع هنا وهناك، كما أتاح تدفق المعلومات السريع الفرصة أمام أقطاب صناعة الرأي في الدول الغربية لخلق دوافع يتم تعميمها من أجل القيام بأي شيء (بالمعنى السلبي للعبارة)، مثلما حدث قبيل الغزو الأمريكي للعراق بذريعة امتلاكه لأسلحة دمار شامل اتضح لاحقاً أنها غير موجودة!.

العالم بوصفه مجموعة من الموارد

وبين السيطرة الملموسة الفيزيائية والسيطرة المحسوسة يبرز صراع قديم جديد على الموارد الاقتصادية، صحيح أن الاستيلاء على الموارد كان-تاريخياً- دأب بالدول الاستعمارية في أفريقيا، ثم الشرق الأوسط، والهند بشكل رئيسي، إلا أن هذا الصراع الآن عاد ليفرض نفسه كأحد مصادر الفوضى في هذه الفترة الزمنية، وأصبحت التحالفات الاقتصادية أوسع انتشاراً من المفهوم الإقليمي (الناتو)، أو العقائدي (الكتلة الشيوعية) للتحالفات كما عهدناها، وبهذا أصبح الجنود، ورجال الصحافة، ورجال الأعمال يحاولون الوصول إلى هدف واحد، لكن من طرق متوازية.. إنه التوسع والامتلاك دون الآخرين، أما الآخرون أنفسهم فهم العقبة التي تحول دون هذه السيطرة، وهؤلاء “الآخرون” عرضة إما للهجوم على أجسادهم، أو الهجوم على عقولهم، وحالياً هم تحت هجوم على أمعائهم!.