التناغم السعودي الإسرائيلي ضد اليمن.. دعم وتحالف استراتيجي
د. معن منيف سليمان
شكّلت اليمن مسرح مواجهة إقليمية واسعة، ليس الآن فحسب في ظل العدوان السعودي الحالي، ولكن حتى قبل خمسين عاماً حين غيّرت أحداث حرب اليمن الأولى 1962 ميزان القوى الإقليمية، وأدت بشكل غير مباشر إلى حرب حزيران 1967، وقد تدخلت “إسرائيل” عسكرياً في الحرب الأهلية اليمنية الأولى بوازع أن أي إضعاف لقوة مصر يأتي في صالحها، وحيث إن مصر قد دعمت الجمهوريين بعد لجوئهم إلى الرئيس جمال عبد الناصر عقب فرار الإمام محمد بدر حميد الدين إلى السعودية وتكوينه جيشاً من القبائل بمساعدة وتمويل وتخطيط كل من بريطانيا والسعودية والأردن، فكان من مصلحة “إسرائيل” أن تدخل هذا التحالف ضدّ مصر عبد الناصر لاستنزاف قوة الجيش المصري هناك.
وبعد إشارات مبعثرة هنا وهناك عن تعاون بين تل أبيب والرياض قد يكون الأول من نوعه بين العاصمتين في مراحل التطبيع بينهما، وعن دور “إسرائيل” في إضعاف الجيش المصري في اليمن الذي كان أحد أهم عوامل هزيمة حزيران عام 1967، يكشف “يوجيف ألباز، “باحث إسرائيلي”، للمرة الأولى عن مشاركة “إسرائيل” بجانب السعودية والأردن وبريطانيا بنقل معدات وأسلحة ومقاتلين لدعم قوات الملكيين، وما تكشف مؤخراً من وثائق إسرائيلية تؤكد للمرة الأولى وبشكل رسمي، ليس فقط تقاطع مصلحة تل أبيب مع مصلحة الرياض في استهداف مصر عبد الناصر في اليمن، ولكن أيضاً على العمق التاريخي لمراحل التقارب والتعاون بينهما حتى ولو كان ضدّ دولة عربية مثل مصر.
ففي 31 آذار عام 1964 تمت أول عملية إسرائيلية في اليمن لنقل أسلحة وذخائر ومعدات، حيث اخترقت طائرة نقل إسرائيلية سماء اليمن، بقيادة الطيار “آريا عوز” الذي قاد الطائرة نحو شمالي اليمن فوق معسكرات الجيش المصري، وبعد تلقيه إشارات ضوئية من الأسفل بدأ إنزال حاويات ضمّت أسلحة وذخائر وإسعافات طبية، عزّز ذلك الثقة بين الملكيين والإسرائيليين، فعلى مدى عامين تكرّرت العملية أكثر من ثلاث عشرة مرّة.
وأكّد تاجر السلاح السعودي الشهير “عدنان خاشقجي” في شهادته أمام لجنة تحقيق في الكونغرس الأمريكي عام 1987 بشأن ما عُرف وقتها بفضيحة “كونترا غيت”، أنه التقى شمعون بيريز الذي كان يشغل منصب مساعد وزير الدفاع وقتها، في فرنسا عام 1963 لبحث طلب غير مباشر من رئيس الاستخبارات السعودية آنذاك، كمال أدهم، صهر الملك فيصل، بتعزيز “إسرائيل” لجسرها الجوي المنطلق من جيبوتي إلى شمالي اليمن، بالتوازي مع سعي سعودي لتعزيز دور المرتزقة البريطانيين، وغيرهم من جنسيات أخرى في الشأن نفسه بتمويل سعودي!.
وفي هذا الإطار ذكر الكاتب المصري، محمد حسنين هيكل، في كتابه “سنوات الغليان” أن “إسرائيل” تولت الشق العملي من تسليح ونقل المعدات إلى كل من المرتزقة الأجانب الممولين سعودياً، وقوات الملكيين في جبال شمالي اليمن، وسميت تلك العملية بـ”مانجو”، وامتدّ التعاون بين الطرفين إلى نقل تل أبيب قوات خاصة من اليهود اليمنيين الذين هاجروا إلى فلسطين المحتلة لتنفيذ عمليات خاصة في بيئة اعتادوا العيش والاندماج فيها.
يُذكر أن النظام السعودي فتح علاقة مباشرة مع تل أبيب من أجل بحث دعم الملكيين ضدّ القوات المصرية والثوار، وهو ما لزم عقد لقاءات بين مسؤولي الدولتين، وقد تمت إحدى جولات هذه اللقاءات في القنصلية الإسرائيلية في بومباي بالهند، حيث تردّد الدبلوماسي السعودي أحمد القاضي على القنصلية مرّات عدّة، بأوامر من الملك فيصل الذي كان يشغل منصب ولي العهد آنذاك، في إطار بحث إمداد الطائرات الإسرائيلية لقوات الملكيين بالأسلحة والذخائر، مقابل معلومات تقدمها السعودية والملكيون عن الجيش المصري وتسليحه إلى “إسرائيل”، وهكذا عملت السعودية ضد الحكومتين المصريّة والسوريّة في حرب 1967، وأنهكت الجيش المصري في حرب اليمن خدمة لـ “إسرائيل”، وقد وصلت أسلحة إسرائيليّة إلى السعوديّة كي تلقي بها في أحضان الطرف الرجعي الملكي، خلال الحرب في الستينيات.
ونقلت تصريحات سفير “إسرائيل” السابق في بريطانيا المدعو “أهارون ريميز”، حول لقاءاته وآخرين، بصورة مستمرة، مع قادة من السعودية والأردن، امتدت حتى ما بعد حرب حزيران عام 1967، واتساع مائدة الحوار بعد ذلك لتشمل مندوبين من وزارة الدفاع السعودية، ومنظمة الاستخبارات والأمن القومي الإيرانية زمن الشاه “سافاك”، وجهاز الاستخبارات العسكري الإسرائيلي “أمان”.
وبعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين القوات المتحاربة وداعميهما: مصر والسعودية، فإن المرتزقة الأجانب الذين شاركوا في الحرب حاولوا الإبقاء على الجسر الجوي الإسرائيلي وذلك في أيار عام 1966، وطرح تدريب “قوات الإمام” على أراض إيرانية بإشراف إسرائيلي أمريكي، وجسّ نبض الملك فيصل للتجاوب مع ذلك.
وبناء عليه لم يعد مستغرباً موقف حكومة الكيان الصهيوني من العدوان السعودي الحالي على اليمن، حيث استقبلت تل أبيب هذا العدوان بإيجابية، بحكم أن السعودية تعمل من خلال عدوانها على مواجهة نفوذ إيران، حليفة الحوثيين، و”عدوة” كل من الرياض وتل أبيب، وهي نقطة الالتقاء بين العاصمتين التي سارعت وتيرة التقارب بينهما، والذي خرج من نطاق السرية والغرف المغلقة إلى العلن خلال السنوات القليلة الماضية على خلفية توافقهما ضدّ إيران.
لقد كشفت صحيفة “معاريف” الصهيونية من خلال مقابلة مع وزير الخارجية السعودي “عادل الجبير”، أن الوضع في اليمن، وخطر الإرهاب يتواجدان على سلّم أولويات الرياض، وأن النظام السعودي تلقى دعماً عسكرياً من “إسرائيل” في حربه على اليمن.
ويشير الخبراء الإسرائيليون إلى الأهمية الكبرى لتعاون تل أبيب مع الرياض في العدوان على اليمن، كونها مدخل باب المندب، وهو الممر المائي الوحيد المهم لـ “إسرائيل”، ويرى هؤلاء الخبراء أن الحرب التي تشنّها السعودية ضدّ اليمن تخدم مصالح “إسرائيل” مباشرة، وتشكّل فرصة ثمينة لجني ثمار استراتيجية حيوية للأمن الإسرائيلي، ويجب دعمها.
فيما رأى المستشرق اليهودي “رؤوفين باركو” أن ما يحدث اليوم من صراع محتدم في اليمن قد يكون فرصة لاندماج “إسرائيل” سرّاً في المخططات الجيواستراتيجية لدول المنطقة.
وأكد “غاريث بورتر” المحلل السياسي والخبير في شؤون الأمن القومي الأمريكي أن السفن البحرية الأمريكية تقوم بدوريات جنباً إلى جنب مع السفن السعودية لمنع الأسلحة من دخول اليمن، واتهم “بورتر” الولايات المتحدة بتورطها في الحصار الذي تقوده السعودية لمنع دخول الغذاء والوقود والإمدادات الطبية إلى اليمن.
إن القضايا التي كانت وراء التدخّل العسكري السعودي- الإسرائيلي في اليمن في الستينيات هي نفسها وراء التدخّل الحالي، وكما كانت “إسرائيل” حاضرة بقوّة آنذاك في العدوان على اليمن، فإنها حاضرة اليوم، وإن كانت للتدخّل الحالي ظروف وملابسات وأهداف جديدة.
ومثلما تكشف بمرور الزمن الدور الرئيس لـ “إسرائيل” في حرب اليمن الأولى، وكيفية استثمارها لمواجهة مصر العدو الرئيس لتحقيق هزيمة حزيران 1967، فإنه من غير المستبعد أن ينكشف في المستقبل القريب عن دور أساس للكيان الصهيوني في العدوان الحالي على اليمن، إذ إن الرغبة السعودية تلاقت مع مصالح “إسرائيل” التي باركت بدورها ما عرف بـ “عاصفة الحزم”.
إن التناغم بين نظام بني سعود و”إسرائيل” ضد اليمن ليس من قبيل المصادفة، فهناك الكثير من الأدلة والقرائن التي تشير إلى تنسيق عالي المستوى بين هذين النظامين في الملفات الإقليمية، وفي مقدمتها العدوان على اليمن.