القصة القصيرة.. أحوال ووقائع
تنسحب القصة بما هي عليه من كونها عملا أدبيا يصور حادثة من حوادث الحياة أو عدة حوادث مترابطة، وربما متخيلة وتقديمها بقالب حكائي له أسلوبه وتقنياته، يقصد به إثارة الاهتمام والإمتاع أو تثقيف السامعين أو القراء، كما لديها أيضا كفن ضوابط كلاسيكية -البداية والذروة والخاتمة- أو ما يعرف بأصول “القص الأرسطي” نسبة لـ سقراط، باعتباره من وضع تلك الضوابط في سياق التحديد بين فن وأخر، ينسحب هذا الفن –فن القص- على الجميع تقريبا، فيوميا هناك من يروي لك حكاية وقعت هنا أو هناك، أو قصة حصلت مع فلان، أو حديث عابر يتخلله طرح كذا قصة بمختصرها الشديد، وهذا ما يسمى بـ “الاستعداد القصصي”، فللجميع حكاياتهم، وهذا الاستعداد القصصي ليس إلا خاصية يشترك فيها الجميع، لكن الأنواع والأساليب والتقنية والمهارة هي ما يميز قصة يلمع نجمها، عن قصة لا تقعد في البال إلا قليلا، ولهذا يلمع نجم فلان من المشتغلين في هذا الفن الشاق، بينما تخفت أسماء لم يشغل نتاجها بال القارئ حتى ونحن في عصر “السوشال ميديا”، حيث بإمكان أي شخص أن يكتب قصته، ولكن ليس بإمكان كل شخص، أن يجعلها تفوز بقلوب الناس، وبالتالي بتم العمل لتحويل مجموعة قصص لمدونٍ ما إلى كتاب، هذا لم يحدث لدينا إلا قليلا من جهة القصة، وعندما حدث، وجدنا أن اغلب تلك النتاجات، التي نُشرت على الصفحات الزرقاء، قبل أن يتم تجميعها في كتاب، ربما لجس نبض القارئ، هناك فعلا من قرأها وأحبها وقرر أن يجعلها في كتاب، لكنها لا علاقة لها بفن القصة، بقدر ما هي خواطر شخصية، فيها ما فيها من الرمزية، وتكسير التابو الذي لم يعد يقف عنده أحد، لكنه لا يزال مشوقا.
بالتأكيد ليست كل القصص سواء تلك التي تتناول الحوادث الكبيرة، أو غيرها، ذات قيمه أدبية مكتملة وناضجة، فالقيمة الأدبية والفنية للقصة تأتي من مهارة الكاتب ومن جوهر الأحداث التي يحيك خيوطها، كما أنها تأتي في المقام الأول، -أي اللمعة الذكية-عند الاختيار، فالقصص كثيرة، ومتشعبة، وفيها ما هو صالح لخامة حكاية قصصية بديعة، وفيها ما لا يصلح لهذا، لذا فالاختيار بين تلك الفكرة وغيرها، هو الأهم، مهما تنوعت أنواع الأسلوب القصصي، الذي ظهر وبدا ولاح منه، العديد من أنواعه خلال العقدين الأخيرين.
ورغم أن طبيعة القصة القصيرة تنسجم وروح العصر بخطواته السريعة نحو الرقمية الكونية، إلا أن وجود القصة في حياتنا اليومية هو أمر حتمي على المستوى الشعبي، فما من حديث في البيت أو في الشارع والعمل وغيرها، إلا وثمة قصة تروى، عدا المخزون الثقافي الموجود في الذاكرة الجمعية، والذي أساسا هو بتنوعه عبارة عن قصة. أما على مستوى الكُتاب أصحاب اللمعة الذكية، والأسلوب المنفرد، والرشاقة في الوصول إلى قلب الحكاية، والجدة في الطرح والقدرة على الاستحواذ على القارئ منذ اللحظات الأولى أو منذ السطور الأولى، فهو في تراجع وتدهور مستمر، فهذا الفن الراسخ، والذي يُعتبر واحدا من أهم الفنون التي عرفتها البشرية، ورغم كونه الأساس للدراما بأنواعها، إلا أنه لم يعد فنا مثيرا، فيه ما فيه من اللعب الجميل على المفردات والتقنية والمفاجآت التي عادة ما تجلبها النهايات غير المتوقعة، رغم أنها تنجح في ذلك دراميا، ورغم قيام العديد من أصحاب القلم، الذين عجزوا عن الشعر، فذهبوا نحو القصة، وعندما عجزوا عنها سيذهبون نحو الرواية، بإصدار العديد من المجموعات القصصية، إلا أن نصيبها من النسيان، كان أكبر وأقوى من جعلها تمشي في ركب القصة المبهرة المستمرة بالألق، فمثلا نستطيع اليوم أن نأخذ أي قصة جيدة أحبها الناس من الماضي، ومع إجراء بعض التعديلات هنا أو هناك على بعض مجرياتها، يُعاد لها بريقها ولمعانها، وتشتعل مرة أخرى في وجدان الجمهور، وقلة هذه ما لم تكن نادرة، هي القصص المعاصرة التي تستطيع منافستها.
هذا التراجع الكبير في فن القص ترك أثاره العميقة على فنون أخرى مرتبطة به ارتباطا وثيقا، كالمسرح، السينما، التلفزيون، وحتى الأغنية التي نجح العديد من الرواد في جعلها قصة ملحنة مثل بعض أعمال “عاصي الرحباني” مثلا، فتلك الفنون قائمة على القصة، فهي الأساس في مسلسل تلفزيوني ما أو فيلم سينمائي أو عمل مسرحي، فهي بحاجة إلى القصة الجيدة لتنجح، وفي حين لم تفعل ذلك، لن يُكتب لها الاستمرار، وها هو التاريخ يخبرنا كيف أنه يصطفي الأفضل، ويُهمل ما عداه.
ويبقى السؤال قائما عن سبب تراجع هذا الفن العظيم، وتدهور أحواله، واختفاء كتابه، وتغير نمطه لدرجة تشويهه بحجة التجديد؟.
ألم يعد لدينا كُتّاب مهرة في هذا المضمار؟ هل غابت المخيلة عن هذا الواقع الكثيف واليومي الذي صار يلتهم حتى الدهشة بأنواعها، بعد أن حطمت الأحداث المحلية والعالمية وعلى امتداد أكثر من عقدين، عنصر الدهشة والمفاجأة بما أظهرته من غرائب وعجائب لم تكن تخطر في بال الأولين ولا حتى من تلاهم إلى وقت ليس بالبعيد؟ أم أن هذا الفن الشاق كما أسلفنا لم يعد مغريا لأنه بحاجة إلى ضوابط دونها لا يكون هذا الفن قائما، ومن له “بال” الآن كما يقال على التمسك بتلك الضوابط بعد تعلم مهارتها، في الوقت الذي يصبح فيه كتاب هلامي، ما فيه غير معروف الجنس والهوية، من الكتب اللامعة في هذا الزمن! وبالتالي فإن التخلي عن فن القص والتوجه نحو ما يسمى بالنصوص المفتوحة، أو النثريات المتعددة الاستعمالات، هو أفضل حتما وأريح للرأس ولأصحاب اللايكات، القُراء الجدد للكتابة الجديدة؟.
إن هذا التراجع المستمر في فن القصة، رغم أننا نحيا أجواء منذ عقد تقريبا، تزخر يومياتها بمئات القصص، ذات الثيم المتفردة، والحالة الجاهزة، لأن يُعمل القاص قلمه أو “كيبورده” ليشرع ببداية قصة قصيرة، سوف يكون له منعكساته الشرطية السلبية الأكثر حدة في التدوين القائم لما مضى، فالقصة تكاد تكون بمثابة وثيقة لمرحلة زمنية ما، ويبدو أن ما وثقناه حتى الآن، باهتا، باردا، ولا يعني للجمهور، -عدا القليل-منهم شيئا.
تمّام علي بركات