الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

أيوب خاسراً!؟

د. نهلة عيسى

سبع سنوات وأنا مع جنودنا على كل الجبهات, ولا أدري لماذا كلما زرت جبهة من جبهاتنا تنتابني رغبة مجنونة بأن ألصق جروحي بكل جرح من جروحهم, مثل مغناطيس يلتصق بحديده الأم, لتتشابك أصواتنا وأرواحنا وروائحنا والوجوه, لنشكو ونضحك وننزف ونعزف معاً, فتصير الموسيقى مداراً للكون, لأننا معاً!؟

لا أدري لماذا كلما زرت جنودنا في الجبال والسهول البعيدة تنتابني موجة من المرح, تصبح فيها الحرب مجرد شبح متوهم, ويخرج الوجع من جوف ظلامه, كأن باباً في الصيف قد انفتح, كأن تياراً من الهواء الدافئ, يكنس من عظامي البرد, ومن جوفي الصقيع, ليرفع  القلب راية الفرح!؟

لا أدري لماذا كلما ذهبت إلى الأبطال تتآكل في قدماي الطريق, ويذوي من شفتاي القول, لأحدق في آلاف الوجوه أمام وجهي, أسألها: متى يرتد النبض لظلالنا الواجفة؟ محمد لم يكن يقرأ, جبريل أجبره على أن يقرأ, فعاد إلى البيت بلا كتاب غير كتاب الرهبة, ونادى: زملوني, دثروني, وأكاد أصرخ في وجوه الجنود, ضميني, زمليني حتى أتنبأ, أنا لا أكتب, أنا لا أقرأ!.

لا أدري لماذا كلما ذهبت إليهم أنظر في عيونهم محدقةً,  أليس حراماً أن يسكن التعب هذه الجفون, هذه عيون خلقت لتجبر عيون الليل على التفتح على ابتسامة النهار, هذه عيون خلقت لكي تكون مزاراً, هذه عيون لم تر القدس والجولان إلا تصاوير, وسيفاً قديماً, وصورة جد, ومقابر تؤوي عظام الرجال الذين ما استكانوا على ضيم, هذه عيون رغم أنها لم تر, ما هانت ولا استكانت,  ولا قالت: نحن لم نخلق لهذه الحرب, هذه عيون كدست الأحلام أكياس رمل على حدود الصور, وحملت ظلال الماضي قروضاً على الكتف, وأقسمت: نموت تحت الأحصنة, ويبقى الوطن!!

لاأدري لماذا كلما ذهبت إلى جنودنا في الجبهة أشعر وكأني أدخل الحرب, لأستريح من الحرب, وأغادر خوفي من الموت, لأقاسمه فراشه, وطعامه, وشرابه, ورفاقه في اجتماع شمل, وأعابثه في ساحاته, كاليمامة بنت كليب تنادي الأم والخال: “أنا لا أصالح حتى يقوم والدي, ونراه راكبا يريد لقاءكم”, وأردد مثل اليمامة: لن أصالح حتى ينهض جسد الوطن المتمزق, مكتمل الظل, متحداً في بهاه, فيخرجني جندي من السرحان هامساً: ياصديقة رفاق الموت: اضحكي لعل الحرب تخجل, فأخجل أني أسرح وأضحك.

أنا حزينة, هذه حقيقة, ولا أخفيها, ولكني أضحك, لأني اعتبر وجودي مع جنودنا أشبه بامتطاء غيمة, أو اصطياد نجمة, أو حديث ذي شجون مع فراشة, هم عندي فعل بوح, وفعل حب, غير قابل للرتوش, ولا للتجمل, ولا للخضوع لقانون السير, أو قانون الأحوال المدنية, أو للاتفاقات الجمعية, خاصة أنني ما تعودت أن أخترع أحاسيس, لا أشعر بها, ولا أن أكتم دمعة تقف على رصيف العين, ولا أن أدعي رؤية قوس قزح إلا عندما أراه, والغريب أنني لا أراه إلا في الجبهة!.

أضحك مع الجنود, وصوت الربابة في خيمات عزاء شهدائنا يستوطن أذني, ولكن ضحكي الموجوع, صرخة عنقود العنب, رافضاً أن يصبح خلاً, وهو – ربما- تمرد على القواعد المحفوظة, التي تجبر الواحد منا على أن يتحول بوق أمل متوهم, بحجة رفع المعنويات والهمم, وظني.. وبعض الظن نضج, أن مأساتنا, كل مأساتنا, هي مواجهتنا الأعاصير بالمسابح والأدعية, والرد على الطعنات بالخطابات!.

أضحك وسط الجنود رغم حزني, لأني أعرف أن حزني لن يغير ما حدث, فلا أنا “كليوبترا” التي تورطت بالحب, فغيرت وجه الحضارة الرومانية, ثم انتحرت, ولا “نفرتيتي” التي غيرت خطوط الحضارة الفرعونية, ولا “شجرة الدر” التي قلبت تاريخ المماليك رأساً على عقب, ولا “جاكلين كينيدي” التي عدلت مسار سفن “أوناسيس”, ولا “ماري أنطوانيت” التي كانت زلة لسانها طريقها إلى المقصلة, وبداية طريق فرنسا إلى الحقوق المدنية!.

أضحك, رغم أن جرحي أكبر مما تتخيلون, ولكني فيما يتعلق بالجنود والوطن, وبضميري المتكلم والجمع, وبدون تلفيق, ولا ارتزاق, ولا اعلانات مبوبة, ولا صور سيلفي والوطن خلفي, أنا عداءة مسافات طويلة, ولدي من مخزون الصبر والجلد, ما يرشحني للفوز حتى على “أيوب”.