قصر الشوق (2)
د. نضال الصالح
ذات مساء، وبينما فاطمة ترهق، بإبهام يُمناها، أحد أزرار جهاز التحكّم وهي تنتقل من فضائية إلى أخرى لتتابع أخبار بلدها، سقطَ الجهاز من يدها، كفَّ جسدها كلّه عن الحركة، اتسعتْ عيناها على آخرها، قرأت: “عاجل. استهداف كتيبة للجيش المصريّ في مدينة العريش، محافظة شمال سيناء، والمعلومات الأوليّة تشير إلى استشهاد ستة وثلاثين عسكرياً وجرح تسعة وستين آخرين”.
ليلٌ مرهقٌ بالسواد، وهاتف سامي لا يجيب، وعينا فاطمة مرهقتان بدمع دمّ، دمع يتدفّق فيهما ومنهما كما تتصدّع ذؤابتا جبلين عن بركانين. دمع دمّ يبكي وطنين، أوطاناً، أتعبها الدمّ. وقبلَ أن يستسلم جسدُ فاطمة للرهق الذي أعياه، وفيما كان ضوء الفجر يقرع نوافذ البيوت في القاهرة، وفيما فاطمة تطوي “الكتاب المقدّس” الذي كانت تحتفظ به من سامي، رأته. رأت سامي. رأته يشرع ذراعيه على آخرهما، فلم تومئ له بعينيها، بل أخذته إلى صدرها بكامل درّاقها الذي يحبّ، والذي طالما كان يردد وهو يسرق بعض مائه في الخدين على غفلة منها كثيراً: “كأنّ الله خلق الدرّاق من شجرك”، ثمّ يضحك، فتضحك وهي تقول: “وكأنّك من سلالة موسى إذ نزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين”.
كان حلماً غادرته فاطمة وهي ترنّم ممّا كانت تحفظ من الكتاب المقدّس: “في العالَم سيكونُ لكم ضيقٌ، ولكن ثقوا: أنا قد غلبتُ العالَم”، ثمّ ترفع عينيها إلى سقف الغرفة وتردد: “يا ربُّ”، ولم تكد تستكمل ترتيب نفسها لتغادر البيت حيث اعتادت أن تلتقي سامي في “قصر الشوق”، فتلوذ بذكريات لمّا تزل محفورة في رأسها، وستبقى كما رددت لنفسها، ثمّ تمضي إلى كنيسة السيدة العذراء في “جاردن سيتي”، فتصلّي ليحفظ الربّ سامي من أيّ أذى. حتى أضاء هاتفها الجوال باسم سامي، فهُرعت يدها إليه حيث كان على الطاولة أمامها، وما إنْ مضت بإصبعها إلى يمين الشاشة، ورفعته إلى أذنها، وقبل أن تقول حرفاً واحداً جاءها صوت سامي قائلاً: “ازيّك؟”، فتعثرت الكلمات في فمها، ولم يبق منها سوى سؤالها: “سامي؟”، فجاءها صوته وهو يصخب بضحكته الهادرة: “منتظرة حدّ تاني يا فطمة؟ حدبحك”.
في “قصر الشوق”، ومن دون حساب لشيء سوى نداء قلبيهما، كان سامي يأخذ فاطمة إلى صدره، ويطبع على خديها غير قبلة، ويردّد في سرّه: “كأنّ الله خلق الدرّاق من شجرك”، وكانت فاطمة وهي تحتويه بمطلق ذراعيها تردّد في سرّها: “كأنّك من سلالة موسى”، بينما العيون حولهما تستطيل باحثة عن إجابات لأسئلة استطالت بنفسها في رأس كلّ منهم، وكانت جميعاً تعني شيئاً واحداً هو “إيه الزمان دا؟”، ولم يكن سامي كما لم تكن فاطمة معنيين بأيّ إجابة غير نداء روح كلّ منهما إلى الآخر، النداء الذي سرعان ما كبحه صوت غاضب من ورائهما: “جيل آخر زمان”، والذي سرعان أيضاً ما تحوّل إلى الطلب من المسؤول في “قصر الشوق” أن يخرجهما خارج المكان الذي لا يليق به، بتعبير صاحب الصوت، أن يحدث فيه ما حدث.
هُرع عمّ محمود إلى مصدر الصوت، وبدلاً من أن يقول أيّ كلمة لفاطمة أو سامي، قال لصاحب الصوت….. (يتبع).