القومية في الوطن العربي
د. ساسين عساف
كاتب وباحث من لبنان
القومية هي ظاهرة مجتمعية تعبّر عن شعور طبيعي لدى فرد أو جماعة بالانتماء إلى قوم معيّنين، صاحب شخصية تاريخية مميّزة. أمّا القومية كفكرة أو كاتّجاه عقائدي سياسي أيديولوجي يتوخّى قيام “الدولة/ الأمّة” فنشأت في أوروبا بالقرن التاسع عشر.
عرفت أوروبا في القرن السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر ظروفاً سياسية واجتماعية واقتصادية وفكرية ولاهوتية معقّدة ما أدّى إلى انطلاق الحركة القومية فيها من عدّة تيّارات.
الحركة القومية في الغرب
تجسّدت الحركة القومية في الغرب في نظريتين قوميّتين: النظرية الفرنسية المرتكزة إلى الإرادة المشتركة أو وحدة الإرادة، والنظرية الألمانية المرتكزة إلى وحدة اللغة. في فرنسا جرى نقاش تاريخي بين المؤرّخين الفرنسيين والمؤرّخين الألمان حول قضيّة الالزاس. فكانت نظرية “رينان” في الإرادة، أي في إرادة الحياة معاً. الثورة الفرنسية (1789) أكسبت فكرة القومية روحاً صوفية/ رومنطيقية، فانتشر بين القوميين الأوروبيين إيمان مطلق بضرورة أن تتجسّد القومية الواحدة في دولة واحدة. فالدولة هي التعبير السياسي عن الشخصية القومية. وإنّ أفضل توصيف لهذه الدولة القومية هو الدولة/ الأمّة. فالأمّة هي قومية محقّقة، أي منجزة في دولة، والقومية هي وعي بالأمّة وسعي إلى تحقيقها في دولة. هذه الأفكار تحوّلت إلى قوّة إيديولوجية هائلة حرّكت العمل السياسي طوال القرن الماضي وغيّرت الخرائط الجغرافية للدول الغربية.
أمّا في ألمانيا فمن أسباب نشوء الفكرة القومية هزيمة بروسيا أمام نابليون في عهد التجزّؤ، نداء فيخته إلى الأمّة الألمانية، الثورة الصناعية، دور بسمارك وقيام الوحدة الألمانية عام 1870.
منذ القرن التاسع عشر وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى يلخّص ساطع الحصري التغيّرات التي طرأت على خريطة أوروبا في عبارة هي: “انتصار مبدأ القوميات”.
هناك دول قامت باسم القومية وهناك أمم عريقة الوجود (فرنسا، بريطانيا) أقامت دولتها القومية تأكيداً وتثبيتاً لهذا الوجود. ولكن جميعها لم يسلم من المشكلات التي قامت في وجهها على قاعدة الأخذ بالمبدأ القومي نفسه. فرنسا، الدولة/ الأمّة التي هي من صنع أربعين ملكاً تجمع شخصيات قومية متعدّدة (القومية البروتونية، قضيّة كورسيكا) بريطانيا أو المملكة المتّحدة تضمّ كذلك شخصيات قومية متعدّدة (القومية الاسكتلندية)، إسبانيا بدورها تتشكّل من شخصيات قومية (كتالونيا، الباسك).
بالمقابل نجد أنّ الدولة الاسكندينافية تفكّكت على الرّغم من قيامها على أصل قومي واحد. هذه الدول لا ينطبق عليها مبدأ “القومية الواحدة/ الدولة الواحدة”.
يقول فردريك هرتز: “عندما صيغت معاهدات الصلح في سنة 1919 افترض بصفة عامّة أنّ الناس الذين يتحدّثون لغة واحدة تقريباً يرغبون في تأليف أمّة واحدة، وأنّ اشتراكهم في جنسية واحدة لا يحتاج إلى أيّ دليل آخر. وقد قوبلت جميع هذه التسويات بمعارضة كبرى لا من جانب الأقليات فحسب بل أيضاً من جانب الجنسيات التي أدمجت في اسم الدولة واعتبرت بذلك أجزاء ممتازة من الأمّة”.
ثمّة أقلّيات قومية، إذاً، تمكّنت من خلق مشكلات داخل تلك الدول. بالمقابل، تمكّنت أقلّيات قومية من إقامة دول لا علاقة لها بالفكرة القومية كالولايات المتّحدة ونيوزيلاندا وأستراليا. وهذا ما يدفع إلى طرح التساؤلات الآتية: “الدولة/ الأمّة” حقيقة هي أم وهم؟ ألم تثر الفكرة القومية مشكلات أكثر ممّا حلّت قضايا؟ الدولة القومية أموجودة هي أم لا؟ هذا في أوروبا والغرب.
الحركة القومية في الوطن العربي
أمّا في الوطن العربي فالقومية العربية، من حيث هي إيديولوجيا تعبير عن حركة سياسية، نشأت نشوءً عفوياً عشيّة انهيار الدولة العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين. جاءت ردّة فعل على حركة “التتريك” من جهة أولى وعلى حركات التبشير والاستعمار الجديد، خصوصاً في مغربه، من جهة ثانية. فالفرنسيون احتلّوا الجزائر سنة 1830 وتونس سنة 1881 وفرضوا وصايتهم على مراكش سنة 1912. والانكليز احتلّوا مصر سنة 1882 ثمّ السودان. والإيطاليون احتلّوا ليبيا سنة 1911. ردّة الفعل هذه تمثّلت في تمجيد العرب والعروبة وفي التمسّك باللغة العربية وفي رفض هيمنة السلطات الأجنبية وفي الاعتزاز بالتاريخ العربي.
بدأت يقظة القومية العربية، في المشرق العربي، في النّصف الثاني من القرن التاسع عشر بتأليف أوّل جمعية عربية على يد نخبة من المثقّفين العرب عُرفت باسم “الجمعية العلمية السورية” سنة 1857 من أهدافها: دعوة الأمّة العربية إلى النّهوض من تخلّفها وإلى التخلّص من نير الحكم العثماني الذي كاد أن يفقد العرب مقوّمات أمّتهم، حضارتهم تراثهم واللغة. ألقى الشيخ إبراهيم اليازجي قصيدته المعروفة بالبائية في أعضاء الجمعية سنة 1868: “تنبّهوا واستفيقوا أيّها العرب..”.
نخب من المفكرين الأحرار، إذاً، عن طريق إنشاء جمعيات سرّية في بيروت راحت تنشر بذور الفكرة القومية العربية. من هؤلاء: إبراهيم الحوراني، يعقوب صرّوف، إبراهيم اليازجي، فارس نمر، شاهين مكاريوس، سليم عمّون، الياس حبالين.
الأفكار القومية، بالمفهوم الأوروبي العلماني، لاقت قبولاً واسعاً في نفوس اللبنانيين المشبعين بالثقافة الفرنسية. نجيب عازوري نشر في باريس سنة 1905 باللغة الفرنسية كتاباً بعنوان “يقظة الأمّة العربية في آسية التركية” كتب فيه أنّ القرن العشرين سيشهد صراعاً بين حركتين قوميّتين لا مجال للتعايش بينهما، الحركة القومية العربية من جهة والحركة الصهيونية من جهة أخرى. وأنشأ بعد ذلك مجلّة شهرية اسمها “الاستقلال العربي”. إنّه أوّل من وضع القومية العربية على أساس علماني. نقع في كتابه “يقظة الأمّة العربية” على بيان نشرته “اللجنة الوطنية العربية” جاء فيه: “والذين أصبحوا الآن يعرفون أنّهم أمّة واحدة يوحّد بينها التاريخ والشعور الوطني ووحدة العرق يرغبون في الانفصال عن الأتراك.. وتأسيس دولة عربية مستقلّة (دولة مدنية) “التفكير القومي ذو النّمط الأوروبي ترك آثاره في القومية العربية وذلك في مستوى الفكرة التي توجب قيام “الدولة/ الأمّة”.
صحيح أن القومية العربية نشأت في جانب من اتّجاهاتها الفكرية والسياسية نشأة علمانية. والصحيح كذلك، وهنا يكمن غناها الفكري، أنّها نشأت، في جانب آخر من اتّجاهاتها على يد مسلمين إصلاحيين. القومية العربية في بعدها الديني لم تفارق الإسلام ولم تصادمه ولم تفهم مقوّمات الأمّة العربية بالابتعاد عن قيمها الروحية والحضارية، وهي لم تستهدف، تالياً، وحدة الدولة العثمانية بل واجهت محاولات التتريك التي قامت بها جمعية “الاتّحاد والترقّي” التي أعلنت الحرب على العروبة والقوميات الأخرى. يقول المؤرّخ زين الدين زين:
“حتى أنّ فكرة الانفصال التام كانت، بعد 1908، فكرة طارئة دفع قادة العرب إليها دفعاً وذلك بسبب قصر نظر “تركيا الفتاة” وسياستها القومية المتطرّفة التي كانت تقول بالجامعة الطورانية”.
طالب بك النقيب أصدر بياناً في العراق سنة 1912 قال فيه: “إنّ أعضاء هذه الجمعية (جمعية الاتّحاد والترقّي) ليسوا بمسلمين وحاشا أن يكونوا، بل إنهم كفّار خدعوا الإسلام وحاولوا تمزيقه وتقويضه من أساساته. وهم الذين يحاولون تتريكنا والقضاء على لغتنا العربية”.
حتى عشيّة الحرب العالمية الأولى لم تتوقّف المساعي والاتّصالات لإجراء مصالحة عربية/ تركية، إذ أنّ العرب، كما يؤكّد أسعد داغر، لم يكونوا في وارد الانفصال عن السلطنة العثمانية بل كانوا يريدون تقوية العنصر العربي فيها حماية لها من الضّعف والانهيار أمام التدخّلات الأوروبية بشؤونها الداخلية.
النضال العربي ضدّ الحكومات التركية، في أحد جوانبه، إذاً، كان لغرض الحصول على بعض الحقوق عن طريق الإصلاح الداخلي. يقول توفيق الناطور، أحد زعماء الحركات الإصلاحية في ذلك الحين: “إنّ فكرة القومية العربية أو العروبة، لم تكن قد تبلورت وقويت، جلّ ما كنّا نحن العرب، نطلبه، هو أن نتمتّع في الإمبراطورية العثمانية بنفس الحقوق والواجبات التي كان يتمتّع بها الأتراك، وأن تقوم الإمبراطورية العثمانية على ركنين عظيمين، الشعب التركي والشعب العربي”.
إن قادة القومية العربية من المسلمين الإصلاحيين في المشرق العربي لم يفصلوا إذاً بين العروبة والإسلام في نضالهم القومي الإصلاحي: “الجمعية القحطانية” (1909) و”الجمعية العربية الفتاة” (1911) قادة وأعضاء، كانت غالبيتهم من العرب المسلمين الذين عملوا لإعادة مجد الدولة العربية الإسلامية بعد أن غلبت الطورانية الوثنية المغولية (جنكيز خان وهولاكو) على العديد من الجمعيات التركية (ترك قوجي، أي التركي الشجاع، وترك أوجاقي، أي الموفد التركي) التي راحت تهاجم فكرة الأمّة الإسلامية وتدعو أعضاءها إلى استبدال أسمائهم الإسلامية بأسماء طورانية.
بلورة فكرة القومية العربية
اليقظة العربية الإسلامية انمازت، في مرحلتها الأولى، بالدعوة إلى التساوي مع الأتراك في إطار وحدة الدولة العثمانية، وانمازت في مرحلتها الثانية بالدعوة إلى إقامة نظام لا مركزي أو اتّحادي ضمن الإطار نفسه، وانمازت في مرحلتها الثالثة بالدعوة إلى الاستقلال التام عن تركيا وإقامة الدولة العربية الإسلامية الواحدة.
هذه التفاعلات والتداعيات أسهمت في بلورة الفكرة القومية وفكرة الوحدة العربية بهدف التخلّص من سيطرة العثمانيين الاتّحاديين فعقد المؤتمر العربي الأوّل في باريس سنة 1913. في هذا المؤتمر عرّف عبد الغني العريسي خصائص الأمّة العربية بالآتي: “وحدة اللغة، وحدة العادات والتاريخ، وحدة المطمح السياسي”. أمّا ذروة تصاعد الوعي العربي وشموليّته فقد جسّدتها ثورة الشريف حسين بن علي في الحجاز في العاشر من حزيران سنة 1916.
يقول ساطع الحصري: “هذه الثورة التي بدأت من مكّة المكرّمة، لم تكن ثورة حجازية بل كانت ثورة عربية بكلّ معنى الكلمة: إنها كانت ترمي إلى استقلال الولايات العربية بأجمعها وكانت تصبو إلى تكوين دولة عربية جديدة موحّدة تنهض بالأمّة نهضة حقيقية تعيد إليها مجدها السالف”.
هذه الدولة العربية الجديدة الواحدة قامت فعلاً في سورية برئاسة فيصل الأوّل بن حسين في آذار سنة 1920. ولكنّها لم تصمد أمام الهجوم العسكري الفرنسي سوى خمسة أشهر فانتهت يوم الخامس والعشرين من تمّوز من العام نفسه، وهو اليوم المعروف ﺑ”يوم ميسلون”.
يقول الحصري الذي عاش في تلك الظروف من موقعه وزيراً للمعارف في تلك الدولة الناشئة: “نحن لا نغالي إذا قلنا إن ذلك اليوم (يوم ميسلون) كان يوماً فاصلاً في تاريخ القضيّة العربية، وأنّه كان خاتمة الفصول الأولى من القضيّة العربية وفاتحة فصولها الجديدة”.
ثمّ أصدر الحصري كتاباً بعنوان “يوم ميسلون”، في دمشق عام 1945 يعتبر فيه أنّ هذا اليوم كان بداية لمرحلة جديدة أكثر جذرية في تاريخ القومية العربية وسيرورتها، حيث تبلورت صورة القومية العربية التي حلّت نهائياً محلّ فكرة الارتباط بالدولة العثمانية.
بعد الحرب العالمية الأولى واجهت القومية العربية أحداثاً خطيرة وكبيرة فرضها الاستعمار الأوروبي: واجهت تنفيذ معاهدة سايكس/ بيكو 1916. واجهت الشروع بتنفيذ وعد بلفور 1917. واجهت كلّ السياسات الأجنبية التي كانت تعمل لتثبيت السيطرة الاستعمارية على الوطن العربي.
واجهتها بثورة مصر سنة 1919، بثورة العراق سنة 1920، بثورة سورية سنة 1925، بثورة تونس بين عامي 1934- 1936، بثورات فلسطينية متتالية: 1920، 1929، 1930، 1933، 1935، وبالثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936. هذه الثورات أسهمت في ازدياد تبلور الوعي القومي والترابط الفكري والنضالي داخل الحركة القومية العربية.
والقومية العربية، على امتداد المرحلة الممتدّة من منتصف القرن التاسع عشر حتى الثلاثينيات من القرن العشرين، بأشكالها العفوية والتنظيمية، انطلقت من أنّ الهويّة العربية تشكّل الجامع القومي، ومن أنّ الوحدة القومية هي من وحدة الأمّة العربية لغة وشعباً وتراثاً وأرضاً وتاريخاً، ومن أنّ العروبة أوّلاً في زمن تعالت فيه أصوات الطورنة والصهينة، ومن أنّ الوحدة العربية نزعة طبيعية عند العرب، فتكرّست بذلك حركة تاريخية ثابتة ومتطوّرة فكراً وممارسة وحتميّة بقاء تعبّر عن نضال العرب المتواصل من أجل التنمية والنّهوض والتحرّر وتأكيد استقلال الأمّة وحماية شخصيتها التاريخية وإنجاز وحدتها القومية.