أخبارصحيفة البعث

دبلوماسية المنشار الكهربائي!!

د. صابر فلحوط

لا أعتقد أنه خلال السنوات الستين السالفة، شغل حدث الأقلام والرأي العام مثل اغتيال المواطن السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول.. وبصرف النظر عن بشاعة الجريمة وإدانتها إنسانياً وحقوقياً وإعلامياً، فإن الحجم الذي أخذته هذه الجريمة والمساحة التي شغلتها من اهتمامات الرأي العام على المستوى “الكوني” يثير جملة من الأسئلة على مختلف الصعد.

فقد سبق لجيلنا أن شاهد وسمع وعايش جرائم وأحداثاً جساماً، تبدأ باغتيال الرئيس الأمريكي جون كيندي في مطلع ستينيات القرن الماضي، كما شاهد محاولة اغتيال ” البابا” وقبله قتل الملك فيصل في منتصف السبعينيات، واعتقال واغتيال المناضل العربي المهدي بن بركة في باريس عام 1965، وعشرات غيرهم على المستوى العالمي، غير أن هذه الأحداث جميعاً كانت موجة لم تلبث أن تتكسر على شاطئ العواصف المتلاحقة في المجتمع الدولي، غير أن قتلاً وتقطيعاً بالمنشار الكهربائي لجثة الخاشقجي، وفي مقر دبلوماسي لدولة رئيسها ( خادم الحرمين الشريفين)، فمسألة فيها ألف نظر ونظر،  كما أن “همروجة” الارتباك التي سادت كلاً من تركيا، حاضنة جغرافية الجريمة، وأميركا صاحبة البيت الذي استضاف الخاشقجي ليجعل منه وليمة دسمة للإعلام العالمي، كل ذلك هو الذي يثير الاستغراب والضحك معاً، إضافة إلى الإدانة والاستنكار والحزن في آن.

وإننا مع تعصبنا المشروع لمهنة الصحافة، سيف الحقيقة ولسانها، فإن جعل الصفة الصحفية لجمال هدفها تحويله إلى قميص عثمان وخاصة عند بعض المتباكين على خاشقجي.. فبكل تواضع “قدّرلي” أن أتشرف في أن أكون واحداً من الرعيل الذي أسس اتحاد الصحفيين العرب، في مؤتمره الأول في الكويت 1965، وتابعت مسيرته حوالي نصف قرن كنائب لرئيس الاتحاد، ومستشار في هذا الاتحاد العتيد. غير أني لم يسعفني الحظ أن أرى للمرحوم اسماً في جداول هذا الاتحاد العربي، كما لم ألحظ نشاطاً صحفياً له على ساحة الإعلام العربي، علماً أنه كان من المعروف ضابط مخابرات، كما كان مستشاراً سياسياً للأسرة الحاكمة، كما كان من المقربين جداً من ولي عهد النظام السعودي محمد بن سلمان، وملمعاً جيداً ونشطاً لصورته في أمريكا. كما كان من السباقين لتأييد جريمة العصر التي ترتكبها السعودية بحق الشعب العربي في اليمن منذ أكثر من ثلاث سنوات.

ولعل جميع المتابعين لسياسة السعودية منذ مرحلة التكوين التي انتهت بقيام الدولة عام 1932، مروراً باتفاق العهد الأبدي بين أمريكا والمملكة عام 1945، حيث تمّ الزواج غير القابل للطلاق بين النفط السعودي والحماية الأمريكية، يعرفون أن العلاقة الحميمة التي تعزّزت بمئات المليارات من الدولارات، التي شفطها الرئيس الأمريكي ترامب خلال زيارته، هي التي مهّدت لمخططات صفقة القرن في الرياض، والتي تبدأ بنقل السفارة الأمريكية للقدس بمباركة سعودية، ولا تنتهي بصفقة القرن والقضاء المبرم على حلم الفلسطينيين في “العودة والدولة”، إضافة إلى الموافقة الروحية على تسليم مفاتيح المنطقة العربية للكيان الصهيوني لسان أمريكا وسيفها المسلط في الشرق الأوسط!!.

إن سجل مملكة الرمال بالخطف والاغتيال حافل بما يجعلها مضغة في أفواه المؤرخين عندما نتذكر المعارض السعودي التقدمي ناصر السعيد الذي اختطف من أمام جريدة السفير في بيروت عام 1979 وألقي من الطائرة في البحر الأبيض المتوسط، ومروراً بالأمراء الذي اختطفوا وأخفوا في أعوام 2014 و2015 و2016 ومنهم: سلطان بن تركي وتركي بن بندر وسعود بن سيف النصر،  أما احتجاز جمهرة الأمراء وفي مقدمتهم الأمير الوليد بن طلال، والذي كان فاتحة عهد الأمير محمد، فالحديث عنه يطول، مؤكداً تعليقات الإعلام العالمي حول تحويل المملكة مقارها الدبلوماسية كما السياحية إلى معتقلات في الداخل ومسالخ ومناشير كهربائية في الخارج!!.

ولعله من المؤسف الفشل الذريع للصحافة ووسائل الإعلام الأمريكية الصديقة للسعودية في وصف جريمة غاية في الوضوح، ما جعل الإعلام العالمي يتبارى بوصف المملكة بأنها قبيلة “نيام نيام” المعروفة بأكل لحوم البشر، وأنها تحول الأبار إلى مقابر، والمقار الدبلوماسية إلى مسالخ، وولي العهد (الملك القادم) إلى سفاح مرعب.

ولا اعتقد أن عربياً حراً يسعده أن يرى مثل هذا الهبوط لدولة هي جزء من الأمة العربية (وإن كان تصرفها يخالف ذلك). غير أننا نتساءل: هل هذه الطعنة النجلاء التي أصابت السعودية في مقتل سياسي وإعلامي يمكن أن تجعلها تصحو من غفلتها ونكوصها وولوغها بالدم، فتوقف الحرب الوحشية على شعبنا العربي في اليمن، وتتوقف عن دعم الإرهاب التكفيري الوهابي الذي أذاقنا المر خلال أكثر من سبع سنوات قبل أن ننتصر عليه، وندفع أكبر ضريبة وطنية وإنسانية في التاريخ نيابة عن أحرار العالم وشرفائه، ومن أجل السلم والعدالة والكرامة للشعوب المناضلة كافة؟!، وهل تدرك مملكة الرمال أن تورطها في جريمة التطبيع مع العدو الصهيوني سوف يغرقها في بحر الظلمات الذي لا منقذ منه؟!.مؤكدين أن منافقة الغرب وأمريكا بخاصة، وتنافسه على زواج السلاح والنفط في محيط أشلاء جمال خاشقجي يستحيل أن يصنع كرامة ومجداً لأية دولة.

وأن أي سلاح لا يكون في مواجهة العدو الصهيوني الذي يحتل الأرض، ويستبيح الحقوق الفلسطينية، إنما هو مكرس لتدمير الأمة العربية تراباً وتراثاً ومستقبل أجيال..  واثقون أيضاً أن شرفاء العروبة الذين يقفون بصلابة مع قضيتهم المركزية فلسطين، يدركون أن انتصار سورية العربية على الإرهاب مدعومة بمحور المقاومة والأصدقاء الصدوقين في روسيا الاتحادية، سيكتب تاريخاً جديداً للعالم عنوانه كرامة الشعوب وحريتها وسيادة كلمتها بعيداً عن الأحادية القطبية والهيمنة الصهيونية المدانة مهما طال مشوار النضال وتعالى منسوب التضحيات.