شـــــروخ
سلوى عباس
كان الجميع يرونه شخصاً مستهتراً وغير مبال بشيء، وشاءت المصادفة أن أقرأ له مقالاً يفيض بالشفافية، وبلاغة الأسلوب، وبعدها أصبحنا أصدقاء، وكم أدهشتني الإنسانية التي يتمتع بها، والتي كنت أراها قطعاً نادراً في زمننا هذا، ومضت الأيام بنا إلى أن قرر الارتباط بفتاة تعرّف عليها عن طريق أصدقاء مشتركين بينهما، وعندما عرّفني عليها لمست في شخصيتها الكثير من الطيبة والصدق، ففرحت لهما علهما يستطيعان أن يحققا لبعضهما حياة مستقرة وهانئة.
استمر حالهما هذا سنوات، لم يُظهر أحد منهما أي امتعاض من الآخر، باستثناء بعض الخلافات الطبيعية التي يعيشها أي شخصين يتشاركان حياة واحدة، وما حصل أن الله لم يمّن عليهما بالأولاد، فكان هذا الأمر ذريعة لكثير من المشاكل التي قلبت حياتهما رأساً على عقب، واتخذ قراره بالطلاق، على اعتبار أن المشكلة تكمن فيها، وهو القديس الذي أنعم عليه الله بالكمال المطلق، وأباح له إطلاق الأحكام جزافاً، إذ أخذ يحدّث الجميع بقصته حتى فقد كل خصوصية له، وأصبح الجميع يتندر بمشكلته.
إن ما حصل أمر طبيعي قد يحصل بين أي زوجين قد لا يتفقان على أمور الحياة، والطلاق ليس مسألة شائنة، بل هو الإطار الشرعي لتسوية الخلافات الزوجية بحفظ ماء الوجه أمام بعضهما أولاً ، وأمام الناس ثانياً، لكن ما هو غير طبيعي الأسلوب السيىء الذي أخذ يتعامل به مع زوجته التي نسي في لحظة من أنانيته الأيام التي قضاها معها، وضرب عرض الحائط بكل المبادئ والقيم التي تنظّم الزواج، وتحصّن الأزواج، وأخذ يطرح مشكلته أمام الناس، وكأنه الضحية وزوجته الجلاد، وقد عكس الأمور نظراً لما يشهد به الجميع من إنسانية الزوجة، وما تحمّلته من هذا الزوج ومزاجيته ونزقه، وأسوأ ما في الأمر أنه ليس من قانون ينصف هذه المرأة التي وجدت نفسها على رصيف الحياة، دون أن تدري أسباباً موضوعية لذلك، والمؤلم في الموضوع أنها الخاسرة الوحيدة في هذه التجربة، ومع ذلك ترى نفسها مدانة بأن الله لم يمن عليها بأولاد ينقذونها من غدر زمن يعيش فيه رجل من أنموذج زوجها الذي منحته ثقتها وحياتها، ولم تطالبه بأكثر من الإحساس بالأمان الذي كان السلاح الأول في حربه معها.
منذ أيام، زارني بعد غياب طويل، وكانت ملامحه توحي بالبشاشة والارتياح، فسألته عن وضعه وأحواله، وأين وصل الحال بينه وبين زوجته، فأجابني بكثير من الثقة: أمورنا جيدة، ولا أخفيك بعد هذه الحرب التي نالت من أرواحنا الكثير لم أجد إنسانة بصدق زوجتي ووفائها، ونحن الآن بصدد ترتيب حياة جديدة نعوّض فيها لبعضنا ما عشناه من مرارات ووجع.
تساؤلات كثيرة تحضر وبإلحاح حول هذه الحالة، وحالات أخرى نواجهها في حياتنا، إذ كيف للإنسان أن يتخلى عن ذاته؟ وما الذي يجعل إنساناً يعيش الآن بقناعات يغيرها في اليوم التالي؟! وكم هناك من أمثلة عن أشخاص حاربوا الدنيا من أجل أن يفوزوا بفتاة يرون فيها زهرة أحلامهم، وعندما يحققون وجودهم معها تنتهي قيمتها عندهم، ويصبح أمر التخلي عنها سهلاً عليهم، ويبدؤون ممارسة أنانيتهم عليها؟! فما الذي يجعلنا نعيش هذه الحالة من التناقض مع أنفسنا، ومع أصدقائنا ومجتمعنا؟ هل شروخنا الروحية وصلت لحالة من التفسخ لم تعد تجدي معها أية قيمة أو مبدأ؟! أم أن مبادئنا ليست سوى أقنعة نتخفى بها حسب المواقف التي نرى أنفسنا أسرى لها؟!.