تداخل النصوص في الشعر العربي الحديث والمعاصر
منذ أن صاغت الناقدة البلغارية جوليا كريستيفا مصطلح التّناصّ في الأدب، أخذ ينتشر في الكثير من الأبحاث والدراسات العربية التي تناولت موضوع التشابه والتقاطع بين النصوص الفنية على انواعها، وتطور ليشمل السرقات الادبية والاقتباسات عن النصوص السابقة، رغم حتمية وجود التلاقح الثقافي سواء بين الامم او بين الاجيال، فلا شيء يأتي من العدم، وقد شهدنا عبر التاريخ كيف ان الثقافات والحضارات تقوم على اطلال بعضها البعض.
وفي المحاضرة التي ألقاها د. جودت إبراهيم مؤخرا ضمن نشاطات فرع حمص لاتحاد الكتاب العرب لهذا الشهر، سعى للالتفاف على مصطلح التّناصّ الذي شاع واستهلك كثيرا، ليعنون محاضرته ب “تداخل النصوص في الشعر العربي الحديث والمعاصر” منطلقا من قول الناقد الروسي “شكلوفسكي” إن العمل الفني يدرك بعلاقته بالأعمال الفنية الأخرى…”
وقد درس التّناصّ في أعمال عدد من الشعراء العرب المعاصرين الذين يمثلون معظم البلدان العربية خلال القرن العشرين، والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، شعراء وجد مصادر التّناصّ عندهم مع أعمال شعراء عرب آخرين ينتمون إلى عصور أدبية مختلفة، سواء في عناوين القصائد، او الدواوين، ومصادر أخرى كثيرة كالكتب المقدسة والموروث الديني العام، والمعتقدات الفلسفية، ثم مع التاريخ والتراث العربي عموما.. وصل عدد من درسهم الى نحو عشرين شاعرا،ومن الأمثلة التي ساقها قول نزار قباني في قصيدته هوامش على دفتر الهزيمة:”مضحكة مبكية معركة الخليج
فلا النصال انكسرت فيها على النصال/ولا رأينا مرة أشور بانيبال..”
والذي يتناصّ مع بيت المتنبي “فصرت إذا اصابتني سهام/تكسرت النّصال على النّصال”
كما يستدعي إيليا أبو ماضي أعلاما من الشعر العربي ويوظفها علامات مثالية في شعره، ومن ذلك عنوان قصيدته “حكمة المتنبي”
ونجد عند احمد شوقي عناوين قصائد مثل “الهمزة النبوية” التي يعارض فيها همزية الأمام البوصيري. وهناك”نهج البردى”
ويرى الباحث أن الشاعر العربي المعاصر يمتلك تراثا شعريا عريقا يمتد لعدة قرون، ولهذا ليس غريبا أن يعود إلى هذا التراث، عودة ليست للنقد، او الاستنساخ، وإنما هي عودة إلى الأصول التي تفجرت منها تلك الروح الشعرية، وقد كان هذا المد الشعري العربي القديم من المصادر الأساسية التي راح الشعراء ينهلون من ينابيعها القديمة، يقول نزار قباني في قصيدة “من مفكرة عاشق دمشقي”
فلا خيول بني حمدان راقصة
زهوا ولا المتنبي مالئ حلبا
فهنا يستحضر الشاعر العلامات المثالية ومتمماتها فيشير الى صفتي المتنبي المتلازمة “ماليء الدنيا، وشاغل الناس” كما يذكر خيول بني حمدان مذكرا بسيف الدولة الذي ارتبط ذكره بالمتنبي في معرض المدح والزهو، لخدمة فكرته.
ويعيد الياس أبو شبكة إلى أذهاننا شعرنا من امرئ القيس حين قال:
ترامى الليل كالهمّ الثقيل يجر ذيول معطفه الطويل
ليتقاطع مع قول أمرئ القيس
وليل كموج البحر أرخى سدوله.
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقد استخدم أربع علامات مشابهة هي الليل والطويل والهموم والنجوم.
ويلجأ محمود درويش الى التّناصّ مع المتنبي فيقول: هذا زمان لا كما يتخيلون / بمشيئة الملاح تجري الريح/والتيار يغلبه السفين/ماذا طبخت لنا/فإنا عائدون..
فقد غير درويش هنا ما أراد المتنبي قوله في بيت:
ما كلّ ما يتمنى المرء يدركه
تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن
أما الشاعر البحريني قاسم حداد فقد اعتمد في تناصّه على قانوني الامتصاص والحوار، وان كان الامتصاص هو الغالب، ومن ذلك استلهام شعر امرئ القيس عندما فاجأه خبر مقتل أبيه: ضيعني أبي صغيرا وحمّلني دمه كبيرا، لأصحو اليوم ولأسكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر.
ماذا قال قاسم حداد: وكيف القوم حين توالد الخطر. غفوا في حانة بلهاء وانتحروا
وحين اتتهم الأخبار ما انتصروا. وقالوا (يومنا خمر وبعد اليوم نفتكر)
ويذكر المحاضر قصيدة الشاعر المصري أمل دنقل لا تصالح وتقاطعها مع وصية كليب لأخيه الزير سالم في السيرة المعروفة..وغيرهم من الشعراء العرب في بحث يطول الخوض فيه.
آصف ابراهيم