الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

رواية معرض مؤجل..!

حسن حميد

الآن، ومثلما اعتدت دائماً، وأمام كل رواية ذات حمولة ثقافية كبيرة، وأبعاد موسوعية مترامية، أعود إلى قولة لينين الخالدة: لقد عرفت فرنسا تاريخاً، ومجتمعاً، وسلوكيات، وأحلاماً من خلال مدونة بلزاك الروائية.. لأن في هذه القولة استبطاناً هائلاً لما تحوزه الرواية من مقدرة وجمال وجذب لتكون هي مرآة المجتمع وكتابه في آن.

حدث هذا لي وأنا أقرأ “ثلاثية” نجيب محفوظ التي جالت بين تضاعيف الحياة المصرية فقدمتها كما يليق بها، وأفردت صفحاتها للثنائيات المتناقضة، والأحلام المتصادية، والأشواق اللوّابة على كل جميل وداهش، مثلما حدث هذا وأنا أقرأ رواية “مدن الملح” لـ عبد الرحمن منيف التي قدمت مجتمع الطفرة النفطية بعيداً عن الصورة التي رُسمت بيد الافتعال والمجاملة، ومثلما حدث هذا وأنا أقرأ (السفينة) لـ جبرا إبراهيم جبرا التي جلا فيها أبعاد المنفى الفلسطيني وأحزان الاقتلاع  من الأرض، ومثلما حدث هذا وأنا أقرأ (الرجع البعيد) لـ فؤاد التكرلي الذي جال في حارات بغداد جولان المحب العاشق، لمعرفة ما أحدثته مواجهات أهل العراق مع الانتداب البريطاني، وما عرفته البيوت العراقية، عاداتٍ وأعرافاً، من متغيرات كادت تكون شاملة..

قلت إنني تذكرت قولة لينين، حين قرأت تلك الأعمال الروائية، واليوم أتذكرها بقوة، وأنا أقرأ رواية د. هزوان الوز (معرض مؤجل) عبر جزئين صدرا عن دار الفارابي ببيروت، الذي يسرد فيهما حياة أهل الشام عبر نظرة جوّابة للمكان، والعادات والتقاليد، فيقف عند أحياز الغنى والفقر، والعلم والجهل، والثقافة واللاثقافة، والسياسة واللاسياسة، والواقع والحلم، والفرح والحزن، وعبر نظرة جوابة لأزمنة دمشق التي تمثل البلاد السورية في زمن المداحمات الكبرى، ومنها هذه الحرب التي أحدثت متغيرات كبيرة في مختلف المستويات والأحوال، وفي مختلف النفوس والمناطق الجغرافية لأن أوهاج الحرق كانت شاملة عامة.

تعتمد رواية (معرض مؤجل)، وهي تتحدث عن سورية ممثلة بالمكان الدمشقي، وزمن الحرب، وتفاعل الناس فيما بينهم، وما يطلقونه من آهات، وأحلام، على أسرة قادمة من حمص، فكرها اشتراكي، وطموحها مساهرة النبل والأحلام كيما يصيرا واقعاً معيوشاً. بطولة الرواية متعددة، يأخذ بها المكان طوراً وقد تجلّى المكان الدمشق وشعّ بسحره، والزمان طوراً آخر وقد توحّدت فئات المجتمع في مواجهة الحرب، والناس طوراً آخر وهم يبدون شغفهم بالحياة دفاعاً عن المكان والزمان والقيم والأحلام. الشخصية التي تقود السرد هي شخصية الفنان التشكيلي (رامي العنيد) الذي يكاد يكون العين الرائية لكل ما حوله، ومن خلاله يماشي القارئ أحلامه في أن يكون من أهل الحضور والمكانة، ومن خلال سيرورة حياته تتبدى أحوال المدارس والجامعات، وأحوال الأحزاب، وما تشيل به الرغبات من أشواق للدراسة في الخارج، ومن تأسيس لأسرة صغيرة يغمرها الحب والفرح، ومن كشف للتعالقات بين الأبناء والآباء، والتاريخ، والكتب، والفنون، والحياة الاجتماعية وغناها بالآخرين، والمعوقات والصعوبات التي تجعل الحياة هموماً وأنّات.. وكل ذلك يتجلّى في توليفة سردية تبدي الناس وهم يعيشون الحياة واقعاً وأحلاماً في زمني السلم والحرب.

في الرواية تعددية أصوات تتناوب عليها أصوات الأب الاشتراكي، والابن الفنان، والمكان الدمشقي، وقولات الأحزاب، والمدارس. وأحلام الناس أيضاً، وفي الرواية مرايا ثلاث تمثل: الماضي/التراث، والواقع/الشواغل، والمستقبل/الأحلام.

معرض مؤجل، رواية، يكتبها هزوان الوز، وهو طي البرهة السردية الأرجوانية التي يحلم بها الروائي المنهمّ بالبلاد مكاناً وزمناً وناساً، والمنهمّ بالأحلام الروائية التي تشبه أحلام الأنهار!

Hasanhamid55@yahoo.com