الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

جبران وجيلي

 

عبد الكريم النّاعم
لقد فكّرتُ بالكتابة أكثر من مرّة، عن علاقتي الشخصيّة بكتب جبران خليل جبران، والذي أيقظ هذه الرّغبة من جديد، ما نشرته صحف العاصمة عن الاحتفالية الخاصّة بجبران، التي أُقيمت في محافظة طرطوس، في زمن فات، والتي شاركت فيها أكثر من جهة، وشملت جميع ما عرف عن جبران، في الفكر، والشعر، والموسيقى، والرسم، وكلّها فنون برع فيها، حتى أنّ إحصائيّة ما تقول إنّ كتب جبران في العالم، تأتي بعد كتب شكسبير مباشرة من حيث المَبيع، وإذا كنتُ أتحدّث عن حالتي معه، فأنا واحد من جيل ربّما كانت له الحالة ذاتها، بتفصيلات أخرى.
في مطالع خمسينيات القرن الماضي، بدأت مشاعر التعبير عن الذات تطوف بي، وكنت أنهل من مختلف الكتب الثقافيّة التي كان بمقدور أمثالي الفقراء شراءها، وكانت كتب جبران واحدة من أهمّ تلك المَصادر، وكانت تصدر بطبعات شعبيّة، على ورق أصفر، وبغلاف ورق عاديّ يميّزه العنوان، وصورة جبران وهو يحمل خيزرانته بيده، وقد شغفني، حتى لأذكر أنني في بواكيري كتبتُ خاطرة وجدانيّة عنه، ونشرتُها في مجلّة أسبوعيّة تصدر في دمشق.
كان لديّ في تلك الغرفة “اللّبْن” كتبيّة، يعرفها الذين عاشوا تلك المرحلة، أو الباحثون في التراث، وكنتُ أحلم بأن أملأ رفوفها بالكتب، وكانت كتب جبران تشكّل النّواة الأساس لهذه المكتبة، الآن أجلس في مكتبتي المزدحمة بخزائن الكتب، ولكنّني أفتقد ذلك العبَق الجوّانيّ الذي كان لا يتركني.
بالتّدريج بدأت ثقافتان تزحمان الساحة، وتنحّي جبران وغير جبران، الأولى هي الثقافة الوجوديّة التي انتشرت على يد جان بول سارتر، وألبير كامو، وكانت تدعو إلى القلق، والعبث، أو أنّ هذا ما وصل أجيالنا في ذلك الزمن، الثقافة الثانية كانت الماركسيّة، والتي كانت حاسمة، متشدّدة في رفض كلّ ما هو غير ماركسيّ، ولا تكتفي بذلك بل تصنّفه في خانة الرّجعيّة، وباستمرار هذه الدعاوى، وتنظيمها، كان على الكثيرين أنْ يتخلّوا عن جبران وأمثاله، فأصابنا هذا الدّوار، ولكم أنا نادم الآن أنني لا أملك في مكتبتي شيئاً ممّا كان يشكّل نواة لمكتبة لا أدري كيف استطعت شراءها فيما بعد، ولكنني مدين بشيء منها لمكتبة “أتاسي وصوفان” التي كنتُ أشتري الكتب منها، وأدفع بالتقسيط المريح.
أنا أعتقد أن العديدين ممّن كانوا متشدّدين في ماركسيّتهم، قد عدّلوا من تلك الغلواء، وهم الآن أميَل إلى الجانب المعرفي على حساب الجانب الأيديولوجي، وأظنّ أنّ هذه المراجعة شملت عدداً من المفكّرين الماركسيّين، أُدرك أنّهم الآن يتفهّمون قيمة جبران الإنسانية، الرجل الروحاني، التقدّمي، الثائر على الكثير ممّا كان في زمانه، الموسيقيّ، الشاعر الرسّام، ولقد تخلّصوا من قيود الأيديولوجيا المكبِّلَة، ورغم هذا العزاء فإنّه لن يُعيد لي نسخة واحدة من كتب جبران التي كانت في “كتْبيّتي” المتواضعة..
aaalnaem@gmail.com