ليرة مأزومة بقرار مرتبك؟!
بات مريباً نأي إدارتنا النقديّة بسياساتها عن إملاءات ملحّة لا تعترف مطلقاً بخصلة التسويف والتريث، على المستوى الاقتصادي العام وبدرجة أكثر حساسية في جزئية الاستثمار منه؟!.
ولعلّه من غير اليسير حالياً فهم أسباب الإمعان في السياسات التسليفية بالغة التحفّظ، والتشدّد لدرجة قاربت تجميد و”محاربة” القروض المصرفية، على إيقاع الصخب الرسمي والسعي الحكومي الدؤوب لإعادة ترميم البنى الإنتاجية، وإنعاش مطارح التوظيف الرأسمالي أفقياً وعمودياً.. حتى لو كان التوجّه نحو هذا الهدف قد اتخذ من رساميل قطاع الأعمال المخبأة، أداة افتراضية بفعاليتها وتأثيرها؟.
فإن كانت حماية الليرة غاية تبرر أية وسيلة في عرف السلطات النقديّة عادةً، إلّا أن الانكماش أشدّ خطراً على الليرة ذاتها، بدليل أن الحلحلة الجزئية الحاصلة في مضمار الإنتاج، وفي قنوات التصدير، لم تعزّز من سعر صرف ليرتنا في السوق “الحرّة”، رغم أن هذه الأخيرة ليست بخارجة عن سيطرة السلطة النقدية بتاتاً، ولا نظن أننا نذيع سرّاً في ذلك، وقد كان لافتاً أن تبدأ ليرتنا بالتراجع تزامناً مع افتتاح معبر نصيب، وحالة الطلب الزائد عليها هناك على الحدود مع الأردن، ونذكر أنه في الأيام العشرة الأولى قد تم “تصريف” حوالى 1.8 مليار ليرة.. أو ليس النقد خاضعاً أيضاً لمعادلة العرض والطلب.. لماذا لم يحصل العكس إذاً؟؟.
أمام مثل هذه المعطيات المتناقضة، يغدو السؤال المحرج الآن، هو ذلك الذي يستفهم مطلقوه عن جدوى “التحفظ التسليفي” إن كانت ليرتنا تتدهور، أو تمّت “دهورتها” بقرار على اعتبار أنها أساساً ممسوكة، وليست متماسكة، وتخضع أسعارها لقرارات، وليس لاعتبارات اقتصادية بحتة، فلماذا التشدّد والتحفّظ؟!.
هل من الحذاقة و”الشطارة” خلق هذه البيئة الموتورة، التي أرغمت المصارف على اتخاذ إجراءات وقائية قاسية للدفاع عن نفسها أمام شبح الخسارة المحققة، واللجوء إلى وضع سقوف وإجراءات أخرى طاردة للإيداعات، هي من تعصف بالليرة أكثر بكثير من المرونة والسخاء التسليفي، وقد وصل سعر الصرف أمس إلى مستويات غير مسبوقة منذ حوالي عام ونصف؟؟.
لا نملك، كما لا يملك أي متابع تسجيل موقف ملامة على الإدارات المصرفية، فهي تحاول درء حالة انهيار محتمة إن استرخت لتخمة الإيداعات دون أن يسمح لها بالتوسّع في طرح منتجات إقراضية تتناسب مع ملاءتها.. لكن النتيجة كانت أن تناقضاً عميقاً حصل في قوام السياسات النقدية وإسقاطاتها على الأرض، وهو تناقض لا يليق بنا، نحن المتأهبين، لرحلة انطلاق مديدة نحو المستقبل.
الحقيقة أننا الآن في وضع ملتبس قليلاً لجهة التكامل والمواءمة بين مختلف السياسات التنموية، في زمن لا يقبل المزيد – ولا القليل – من التناقضات التي تصل إلى حالة التنازع بين السلطات أو القطاعات أو التشريعات، لأننا هنا بصدد بنى أساسية تؤسس لأخرى فوقية، هي الواجهة الحقيقية لكل مجريات ومساعي غرف الدراسة والقرار.
وإن اتفقنا على أن المصارف هي المحركات الفعّالة الدافعة للاقتصاد، فلماذا نكبحها، ونحيّدها عن مساراتها الطبيعية وأدوارها التقليدية، ونتجاهل حالة الشلل الحاصلة جرّاء ذلك؟.. أليست السيولة وقوداً تنموياً، فلماذا نلقي بها في الخزائن الصمّاء، ونحجبها عن المساحات الرحبة التي تنتظرها اقتصادياً واجتماعياً؟!.
نحن اليوم أمام استحقاقات هائلة بحجمها وبإلحاحها، ونظن أنه يكفينا ثماني سنوات من فوات الفرص وضياع الموارد، ولا بدّ أن نبدأ فعلياً بالإقلاع نحو المشروع التنموي الشامل، الذي تبدو السيولة النقدية شرطه اللازم وليس الوحيد، وقد أزف وقت طرح “قروشنا البيضاء لمواجهة الأيام السوداء”.. والمقولة الاقتصادية الشهيرة تزعم أن “الأموال كالعضلات إن لم نستعملها هزلت”.
ناظم عيد