“تداعيات الظل” للتشكيلي بشار برازي
يثق الفنان بشار برازي بالدرب التي سلكها وصولا إلى هدفه المرتجى، وتتجلى ثقته بهذه الطريق بأن يسلكها لأكثر من مرة حتى ولو تاه عنه الهدف أو كانت النتيجة أقل من التوقعات، لكن متعة أن تسلك دربا آمنة خير من أي مخاطرة هكذا يرى صاحب العناوين المستعارة من التداعيات “تداعيات القهوة، واليوم تداعيات الظل وربما تداعيات الماء مستقبلا”! ربما تكون حسابات الفن مختلفة عن هذه الحسابات حيث “طريق العرس خير من العرس ذاته”!؟
في صالة لؤي كيالي عرض بشار برازي لوحاته، الفنان القادم من حلب إلى العاصمة محملا برسوماته الموقعة في هذا العام، وقد سبق في العام الماضي أن أقام معرضه الفردي “تداعيات القهوة” الذي لاقى القبول والاستحسان ووفّق في تسويق معرضه كاملا، ليعود إلى حلب لا يحمل إلا حقيبة يده ومزاجه المقهوى كعلامة على نجاح المعرض “حسب حسابات أهل السوق”، لكن الأهم أن المعرض لن يلاقي القبول أو تلك النتيجة المتوقعة لولا الجهود التي بذلها الفنان بلياقته الاجتماعية الفريدة على تسويق ما يريد من لوحته بلطف الشخص الدمث.
المهم أن لعبة الفن تنجح مرة أو أكثر لكن الرهان على استمرار هذا النجاح والمحافظة عليه وتقديم المتفوق والمختلف هو أساس أي عملية، وحسبي أن هذه المشاغل تختلف عن مشاغل المستعجلين على حصد النتيجة والمهتمين بالنتيجة المادية وما سيحصلون عليه من مكاسب.
ولتوصيف اللوحة عند برازي لا بد من المساس بهذا القلق أولا قبل الحديث عن تقنية الفنان في معالجة مواضيعه التي لا تتعدى الفكرة الواحدة تقريبا ورسم المشاهد المتقاربة من خلال استدعاء ما بذاكرته من رسومات وأعمال غرافيكية وبعض القطع النحتية التي تقارب في حضورها روح الميدالية وبعض النزعات الاستعراضية، فقد نلمس النحات والملون ورسام الموتيف والموسيقي والشاعر في خليط من المشاعر المشغولة برضى وحفاوة تسترضي المتلقي وتقنع المقتني لوفرة كرم هذا الفنان مع أصحابه، فقد غابت روح المغامرة والتأليف وأضحى التكرار سمة أساسية حتى أن الفارق بين هذا المعرض والذي سبقه غير ملحوظ إن لم يكن الثاني قد أنتج على عجل أو تحت الطلب، فقد استمر الفنان في بناء لوحته بذاك التكوين المقسوم من أعلاه بخط معلق في آخره كرة ملونة في غاية تزيينية وهندسية أيضا، فقد جعلت التكوين أقل تماسكا ومتانة، ويتكرر هذا الأمر في أغلب اللوحات لتكون العلامة الفارقة في لوحات المعرض، وزاد في المباشرة أيضا تلك الكتابات والأشعار الموشومة على اللوحة لملء فراغ ما في السطح وفي غياب أي دلالة تضيف للعمل أي قيمة، مما يضع الفنان في منصة رسام الموتيف الملون ويبعده عن مشاغل اللوحة الحقيقي الذي يتطلب الحوار البصري والمعالجات التقنية العميقة للسطح، في دراية وخبرة الفنان العارف الذي ينشد الكشف والإبحار في عوالم بصرية غير مألوفة من قبل.
ربما يتسع المشهد التشكيلي للكثير من هذه التجارب المتنوعة حتى بات على المتابع أن ينظم فهرسا جديدا عند بداية كل موسم تشكيلي ينظر فيه لقائمة طويلة من التجارب الجديدة التي لم تنج من سطوة التجارب التي سبقتها، والأكثر من ذلك أن هذه التجارب الأساسية ذاتها لم تكن محسوبة على اللوحة التشكيلية أساسا، لكن كثرة تكرارها ومرورها في قنوات التأثير من إعلام وصفحات تواصل زرقاء وحمراء وووو..! جعلت منها واقعا لا مناص منه، لكن أن يتحول هذا المنتج إلى ظاهرة ممتدة على هذه المساحة الكبيرة فذلك يعني أن في الأمر شيئا ما, سيجعل منها جزءا من الخصوصية الفنية عموما رغما عن المألوف في اللوحة السورية أصلا، والتي تتميز بالبراعة والحذاقة إلى جانب الوفرة الكبيرة في عاطفتها وخصوصية مواضيعها الإنسانية، فقد استبدلت الفكرة العظيمة بموتيف بسيط كان يزين صفحات الجريدة ضمن صفحاتها الثقافية لا أكثر، وموازيا لنص إبداعي كتبه شاعر أو قاص في دورية متخصصة، ليتحول بواقع الفارق الثقافي وبؤس البحث التشكيلي عموما إلى منتج مستقل مشغول على قماش ملون ويعرض كلوحة تشكيلية لها كيانها!؟ كما يسعى بعض مقتني الأعمال الفنية للحصول عليها ودفع المال والمراهنة على قيمتها النقدية في المستقبل!؟. بالطبع هذا النوع من المنتجات الفنية لا يحق لأي كان محاكمتها أو تقييمها لأن ساحة الفنون هي أكثر الساحات ديمقراطية، لوفرة الأوكسجين الخاص لحرية الولوج في متاهات اللون والخط والتجريب في التأثير البصري الذي لا يتعدى المربع المحدد بإطار الخشب على لوحة الحامل التي أنهكتها عراك المشاعر المتناقضة مع واقعها، لتبقى في دائرة الوجود حيث يسجلها التاريخ على أنها مرت واستوطنت في الذاكرة.
تجربة لا يمكن إلا الوقوف عندها كجزء من مساحة واضحة تتسع في المشهد التشكيلي تستحق المراجعة والدرس وتطرح أسئلة تخص آلية العرض والطلب، وتمس النزعات الفنية الحديثة التي تستحق الدرس والمراجعة من قبل المتابعين ومن قبل الفنانين أنفسهم، كي لا يبقوا في دائرة الظل ويتلمسوا تلك التداعيات والتحولات العميقة في بنية الثقافة والفكر والفن ومسؤوليتهم نحو المجتمع والإنسان.
أكسم طلاع