أخبارصحيفة البعث

واقعية مبدئية وليس براغماتية

د. مهدي دخل الله

يظهر الرأي العام عندنا تململاً واضحاً مما يسمى«بالخطاب الخشبي» الذي هو نوع من الشعاراتية والديماغوجية التي تصف حالة افتراضية بعيداً عن الواقع الحقيقي..

ولطالما تمسكت الأحزاب والتيارات بهذا الخطاب مدغدغةً بذلك مشاعر البسطاء وواعدة إياهم بتحقيق الحلم الجميل..

لكن التطور الأفقي الواسع للوعي جعل من هذا الخطاب مادة للاستهزاء أكثر منه وعداً بحلم لن يتحقق أبداً. اليوم لا تستطيع أن تعد أحداً بمسألة يعرف هو معرفة تامة بأنها مستحيل أن تتحقق..

الصدمة التي عاشها الجزء التحرري والتقدمي من العالم بسقوط الاتحاد السوفييتي والتجربة الماركسية في كل مكان تقريباً، أدت إلى سقوط ملازم للخطاب الشعاراتي، وفرضت توجهاً أكيداً نحو خطاب واقعي نقدي يحترم عقل المخاطب ووعيه..

ظن دعاة البراغماتية (الذرائعية) أن وقتهم قد جاء. فبدل أن يستند الخطاب إلى ماركس وغيره من دعاة التغيير أخذ يعتمد على مقولات تشارلس بيرس (1893-1914) مؤسس البراغماتية، خاصة مقاله القديم الشهير الذي حمل عنوان (كيف نوضح أفكارنا؟)..

وهكذا.. في مقابل خطاب خشبي ظهر خطاب جديد يستند إلى ذرائعية مبتذلة. في إطار هذا الخطاب يستطيع غلاة العولمة الغربية تسويغ «تحالفهم» الغريب مع الوهابية والتكفيرية، لأن المهم في هذه الذرائعية المبتذلة أن تكون الجدوى نفعية واضحة دون أي اعتبار للبنى القيمية (المبدئية العامة) للبشر ولحق الناس في الحياة والأمن..

عندنا أيضاً لم يعد أحد يكترث بالشعاراتية، وهذا أمر حتمي وضروري، لكن المشكلة أن ننتقل من الشعاراتية إلى البراغماتية، فنكون قد تخلّصنا من سيىء لنقع في الأسوأ.

فعلاً.. بدأنا نشعر بخطاب قريب جداً من البراغماتية. عندما تتحدث عن أي شيء يقولون لك: وما هي فائدة هذا؟ ثم تراهم يتحدثون باستخفاف عن قضايا طبيعية يعرفها الناس عندنا بالفطرة، والفطرة أفضل طرائق المعرفة وأنقاها، لأنها تعبّر عن طبيعة الأشياء..

يستخفون، مثلاً، بالحديث عن العروبة على اعتبارها (موضة قديمة) وعن أمور أخرى مبدئية لا مجال لذكرها هنا. العروبة عندهم متناقضة مع الوطنية السورية، والوطنية واقع، أما العروبة فهي افتراض كما يدعون. هذه العدمية نتاج مباشر للتفكير البراغماتي. المطلوب تطوير خطاب الواقعية المبدئية، تلك التي تجد في الواقع ما يؤكد بعض المبادئ، فتعمل مع الواقع بمعيار المبادئ ومع المبادئ بمعيار الواقع..

مبدأ العروبة واقعياً بحاجة لمضمون جديد ينقذه من مزالق الرومانسية التي يعبّر عنها الخطاب الخشبي عادة. الرئيس الأسد بجملة واحدة حل هذه الإشكالية.. إشكالية الوطنية والعروبة، حيث تؤكد مقولته الشهيرة على أن «الوطنية جوهرها العروبة»، والشيء لا يقوم ولا يستوي إلا بجوهره.

ومن الواضح في هذه المنهجية (الواقعية المبدئية) أن الجوهر واقعي، لكنه محتاج إلى المبادئ بسبب عدم حضوره الظاهر والمباشر، لأن الشيء (الواقع المحسوس) من دون جوهره (الذي يعبّر عنه المبدأ) يصبح زبداً لا قيمة له.

mahdidakhlala@gmail.com