خادمة الصهيونية..
لماذا نزعت الرجعية العربية قناعها الذي طالما كانت تخفي وراءه وجهها المتصهين؟، بمعنى آخر لماذا انتقلت علاقة الرجعية بالصهيونية من السر إلى العلن، وأصبح التحالف بين الاثنين معلناً، ولماذا هذا السعي الخليجي المحموم للتطبيع مع الكيان المجرم الذي يستمر يومياً في ارتكاب مجازره بحق الشعب الفلسطيني المقاوم دون رقيب أو حسيب؟.
الجواب هو أن الحليفة الصهيونية أصبحت في أمسّ الحاجة إلى مساعدة أصدقائها العرب بعد أن فقدت قوتها الساحقة، ودخلت مرحلة التراجع، وتلقّي الهزائم العسكرية، وآخرها هزيمة غزة الذي يعيش الصهاينة اليوم تداعياتها القاسية، والمعبّرة تعبيراً بليغاً عن عمق المأزق الإسرائيلي الراهن.
والحقيقة أن الارتباط بين الصهيونية والرجعية ارتباط قديم وعضوي، فالأنظمة العربية العميلة لم توجد، ولم تحصل على حماية أمريكا ودعمها إلا مقابل أن تكون موظفة في خدمة المشروع الامبريالي الصهيوني في المنطقة، وهو ما فعلته بكل التزام في إطار السرية عندما كان هذا الإطار مناسباً لمرحلة التفوق العسكري الإسرائيلي الساحق. لكن اشتداد عود المقاومة اللبنانية والفلسطينية المدعومة من سورية، وبروز قدرتها المتنامية على ردع الصهاينة، أجبرها على الانتقال تدريجياً إلى طور العلنية في تحالفها مع كيان العدو ومحاربة المقاومة، وكان عليها أن تقدّم الغطاء العربي اللازم للصهاينة ليقوموا بعدوانهم الغاشم على لبنان عام 2006 لهدف القضاء المبرم على مقاومته التي تأكدت إسرائيل عملياً من أنها أصبحت خطراً حقيقياً عليها. لكن الهزيمة المفاجئة التي ألحقها حزب الله بإسرائيل جاءت لتظهر، كما أكدت أيضاً إخفاقات “إسرائيل” العسكرية في غزة بعد ذاك، أن كيان العدو أصبح في أمسّ الحاجة إلى دور رجعي عربي أكبر وأكثر فاعلية في مساعدة إسرائيل، فكان الربيع الأسود الذي أُريد له إسقاط العمق العربي الاستراتيجي للمقاومة، ممثلاً بالحاضنة السورية، هو الترجمة العملية لذلك الدور الكبير، حيث لم يسبق للرجعية أن وضعت إمكانياتها المالية والعسكرية والإعلامية والسياسية، كما فعلت في سبيل تحقيق هذا الهدف الامبريالي الصهيوني بامتياز.
وبما أنه كان دوراً معلناً منذ البداية، فقد أوجدت له الرجعية ما يلزم من المبررات في سياق حرب إعلامية وثقافية وإيديولوجية شعواء عملت على غسل الدماغ العربي، وتغيير الثوابت العقائدية الشعبية العربية، وأهمها أن عدو العرب هو “إسرائيل”، وأثارت الفتنة الطائفية والمذهبية لطمس الصراع الحقيقي في المنطقة.
وعندما تمكّن حلف المقاومة بمساعدة روسيا من التصدي لهذا المشروع، لجأ الحلف المعادي إلى محاول تصفية القضية الفلسطينية سريعاً من خلال خطة سياسية طرحها الرئيس الأمريكي ترامب فيما سمي بـ :”صفقة القرن”، وانطلق الترويج لها بالتزامن مع حملة تطبيع خليجية غير مسبوقة مع كيان العدو، واستشراس هذا الكيان في قمع الحراك الشعبي الفلسطيني المقاوم… إلى أن جاء رد غزة على العملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، فأُسقط في يد إسرائيل وحلفائها، وتلقت صفقة القرن أول صفعة موجعة أكدت أن طريقها ليس مفروشاً بالورود، كما توهّم أصحابها…
صحيح أن الرجعية العربية مازالت تمسك بالقرار العربي الرسمي، لكنها تزداد تناقضاً مع فئات واسعة من مواطنيها، ومع الجماهير العربية عموماً. ومن الواضح أن فشلها في تحقيق أي من أهداف المشروع المعادي، فضلاً عن تخبطها في تناقضاتها وأزماتها الذاتية يفسر إلى حد بعيد، هو الآخر أيضاً، ارتماءها المتزايد في أحضان الصهاينة اعتقاداً منها أن رضا إسرائيل هو مفتاح رضا أمريكا والغرب وضمانة استمرارها وبقائها.
إنها لمفارقة مؤلمة أن تقف أنظمة التبعية والعمالة مع الكيان الصهيوني المحتل، وأن تضع إمكانيتها الهائلة في خدمته في الوقت الذي يدخل فيه هذا العدو مرحلة انحدار القوة ليصبح محكوماً بالهزيمة في مواجهة المقاومة…
ومن هنا ضرورة التركيز في هذه المرحلة على المضمون الوطني للعروبة. إذ إن العمل القومي، في ظل وجود هذه الرجعية، واستمرارها في التحكم بالقرار الرسمي العربي، فضلاً عن تأثيرها غير الخافي، إلى هذا الحد أو ذاك، على المستوى الشعبي المنظم، هو نوع من النفخ في القرب المثقوبة. وما لم تصبح الأقطار العربية أقطاراً وطنية ديمقراطية ذات استقلال وسيادة حقيقيين، لن يكون هناك أمل في أي نهوض قومي ذي مضمون واقعي، ومن هنا أيضاً أهمية التأكيد على أن التغيير الوطني الديمقراطي في الدول العربية الدائرة في الفلك الامبريالي الصهيوني هو اليوم من الأولويات القومية مثله مثل الحفاظ على وحدة الدولة القطرية، أما القيام بهذا التغيير، فمنوط بمواطني تلك الدول أولاً وأخيراً.
محمد كنايسي