رأيصحيفة البعث

التحالفات الدولية في العالم الجديد

ربما كانت الاصطفافات الدولية الواضحة، والمتباينة، حول ورطة السعودية “الخاشقجية” أكبر مثال عن عالم سياسي جديد يتشكّل على أنقاض العالم السابق، ففيما يطالب الرأي العام الدولي، ووسائل الإعلام العالمية، وبعض منظمات حقوق الإنسان، وبعض الدول بتحقيق العدالة ضد المجرمين مهما علت مناصبهم، تقف أغلب دول العالم، ومنها أعضاء مجلس الأمن الدولي رغم خلافاتها الاستراتيجية البينية وصراعاتها المصيرية، في موقف مائع يبدو أقرب إلى محاولة إنقاذ “المملكة” من التبعات الجنائية والسياسية المتعارف عليها في هكذا جرائم، ولكن وفق قاعدة ادفع وافعل ما تشاء، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي وبعض أفراد إدارته علناً حين قالوا: إن السعوديين “كانوا حليفاً رائعاً بحقّ، فيما يتعلق بالوظائف والتنمية الاقتصادية”.

واستطراداً، ولأن “السياسة هي الاقتصاد مكثفاً”، يمكن الحديث عن اقتصاد الفساد السياسي أو فساد السياسة، وهنا تحديداً يمكن الحديث عن نهب اقتصادي تمارسه واشنطن -هناك جانب شخصي/مالي للرئيس وصهره – ويريد حلفاؤها وأعداؤها المشاركة فيه، وأيضاً عن فساد ريعي يمارسه النظام السعودي، ويصمت عنه الخارج، وينتج عنه غنم وغرم في توزيع العائد الوطني بين بعض الداخل الذي يتلقى الفتات وكل الخارج الذي يحصد الحقل بأغلبه، وهذا الحصاد هو دافع ترامب الرئيسي لمواجهة الدولة الأمريكية العميقة، ومن ضمنها المخابرات ووسائل الإعلام “الحرة”، التي ترى في حماقات “ابن سلمان” المتعددة خطراً على مخططاتها في المنطقة.

وبالعودة للسياق العام وانطلاقاً من هذه القضية، ومن قضايا أخرى سابقة، لكنها لم تكن بهذا الوضوح، يمكن القول: إن العالم الجديد لن يكون ثنائي القطب بالمعنى الذي عرفناه في الحرب الباردة، وبالتالي لن تكون التحالفات فيه على ما عهدناه سابقاً بين كتلتين واضحتي التكوين والمبادئ، بل سيكون المستقبل للتحالفات الفضفاضة المتغيّرة أطرافها حسب الحدث أو المعضلة المطروحة للنظر، وهي تحالفات يقف خلفها الاقتصاد لا الأيديولوجيا مهما تعددت أسماؤها، لا شيوعية ولا رأسمالية (كلهم رأسماليون)، ويصبح من النافل قول: ولا عروبية أيضاً، بمعنى أنه لن يكون هناك عالم غربي مقابل شرقي، ولا جدار حديدي بين حلفين مختلفين ايديولوجياً، وبالتالي لا دول عدم انحياز.

وبالطبع يمكن إيراد العديد من الأمثلة والدلائل على ذلك، منها، اقتراب تركيا الأطلسية من روسيا، ومنها الحرب التجارية التي تشنها واشنطن ضد الجميع، حلفاء وخصوم، وما نتج عنها من تقارب ملحوظ بين هؤلاء، سواء في شرق آسيا أو بين أوروبا وروسيا، لمواجهة واشنطن، ومنها أيضاً التباينات الفرنسية الأمريكية الحالية، والخلافات الاستراتيجية بين واشنطن وبروكسل، كعاصمة للاتحاد الأوروبي، حول ملفات دولية حساسة كاتفاقية باريس للمناخ والاتفاق حول البرنامج النووي الإيراني ومعاهدة الصواريخ المتوسطة المدى، وهو ما دفع الأوروبيون للمطالبة، بلسان الرئيس الفرنسي، بتشكيل جيش أوروبي “لحماية القارة العجوز من الصين وروسيا وحتى الولايات المتحدة”، كما يمكن هنا إيراد مثال إقليمي، لكنه لم يتبلور بعد، وهو ما تمثّل بالاعتراض الإماراتي، وهو الأول من نوعه، على الاعتقالات الداخلية في السعودية بعد الفشل المزدوج والمهين للدولتين في اليمن.

إذاً هو عالم جديد، لن تكون التحالفات فيه سوى فضفاضة وظرفية ومرنة تُفض بمجرد انتفاء السبب الدافع إليها، لتتكوّن تحالفات جديدة لمواجهة قضايا أخرى، ما يعني أن الثمن، وكما كان الحال دائماً، سيستمر بدفعه الضعفاء، وبعض الصغار المخدوعين بقدرتهم على اللعب بين الكبار. تحالفات تدفعها مقولة “كلينتون” الذائعة الصيت “إنه الاقتصاد يا..”، لأنه المحرّك الرئيس على مر التاريخ، لكنه اليوم أصبح عارياً وفجّاً بعد أن أزالت عنه الدول الكبرى، ولـ”ترامب” فضل لا ينكر في ذلك، غطاء “المهمة الحضارية” الذي تلحفته في الحقبة الاستعمارية المباشرة، وعباءة حقوق الإنسان وغيرها في الحقبة التي تلتها، لنصبح اليوم أمام سباق واضح على الماء والكلأ والنفط والغاز أيضاً، وليذهب الإنسان وحقوقه إلى الجحيم.

أحمد حسن