من حلب (1)
د. نضال الصالح
من الجلّوم، الحيّ الذي يسند رأسه على صدر حلب القديمة، والموغل في التاريخ شأن أمّه حلب، إلى ساحة سعد الله الجابري التي تتوسط المدينة، كان أوّل الرحلة، بل أوّل الهجرات القسرية هرباً من المسلّحين، الفطر السامّ الذي نبت على غفلة من الحيّ، بل من حلب كلّها، بتعبير ندى دائماً، ندى التي بينما كانت تمضي إلى شرفة البيت في الحيّ الجديد الذي استقرّت الأسرة فيه أخيراً لتساعد أمّها في نشر الغسيل، مزّق صوت الرصاص هدأة الليل المدلّهم بالصمت المخاتل الذي أدمنته حلب لسنوات، ثمّ أعلى رأس ندى الذي تدفّقت دماء غزيرة منه، ثمّ سقطت ندى نفسها على الأرض.
في المشفى، وبعد أن أجرى الطبيب العمل الجراحي اللازم، فتحت ندى عينيها على وجوه ثلاثة، أمها وأخوها وثالث كانت تراه أوّل مرة، سرعان ما عرّفت الأمّ بصاحبه قائلة: “لولا هذا الشاب يا بنتي لم نكن لنستطيع فعل شيء”، وكادت تكمل: “وكنتِ الآن لا سمح الله في مكان آخر من المستشفى”، وكانت تقصد ثلاجة الموتى.
عرّف الشاب بنفسه قائلاً: “فايز”، ثمّ تابع: “فايز الياسين، من درعا، وأؤدي خدمتي العسكرية هنا في حلب، الحمد لله على السلامة آنسة”، وتدخّل شقيق ندى قائلاً: “في الحاجز القريب من مدخل الحديقة العامة”، وقبل أن يكمل التعريف به قاطعته الأمّ قائلة وموجهة كلامها إلى فايز: “لا أعرف يا ابني كيف أردّ لك هذا المعروف، لولا لطف الله وشهامتك لكانت”، ولم تكمل، بل ابتلعت في حنجرتها ما كان يزدحم على شفتيها، بل في روحها، من الخوف والقلق قبل أن يُهرع فايز إلى نجدة الأسرة التي لم يكن أحد من أفرادها ليستطيع أن يفعل شيئاً، أو يدري ما الذي يمكن أن يفعله بينما الرصاص يضرم الليل بصخبه وطيشه والدماء تتدفق بغزارة من رأس ندى، وحسبلت الأمّ غير مرة وهي تلحق الكلمة الأخيرة “الوكيل” بما يشبه اللازمة: “من وين طلعوا لنا ولاد ها الحرام؟” وكانت تقصد المسلّحين الذين كان لكلّ منهم، كما كان حيّ “الجلّوم” يعرف، وأم ندى نفسها تعرف، تاريخ متخم بالسواد.
تحكي الأمّ لندى، فتقول: “وقفت في الشرفة وأخذت أصرخ، ولم يسمعني أحد. صوت تبادل الرصاص بين رجال الحاجز والمسلحين كان يطغى على كلّ شيء حتى هدير السيارات التي كانت تعبر المكان بأقصى ما يستطيع سائقها من السرعة”، ثم كبحت دمعاً اضطرب في عينيها، فانتبهت ندى إلى ذلك، فاستقوت على خدرها، وأنهضت جسدها قليلاً، ثمّ مدّت كفّاً خائرة إلى كفّها، وأخذته إلى شفتيها في غير قبلة، ولم تستطع الأمّ متابعة لجمها الدمع الصاخب في عينيها، فبدأت تنشج وهي تمضي ببصرها بين ابنتها وفايز، وتردّد: “الفضل لله ولفايز يا بنتي، الحمد لله، الحمد لله”، وتابعت: “الله ينتقم منهم أولاد الحرام لحقوا بنا إلى هنا”.
أولاد الحرام، أو أبناء السوابق في السرقة، والسطو، وانتهاك الحرمات، وتعاطي المخدرات والاتجار بها، و… كما كان “الجلّوم” كلّه يعرف تاريخ كلّ منهم، ثمّ أبناء ما قالوا إنّه “ثورة”، ثمّ…. (يتبع).