ترامب والإعلام.. حرب مفتوحة وانتقادات لاذعة
د. معن منيف سليمان
وصلت علاقة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمعظم وسائل الإعلام الأمريكية إلى طريق مسدود، منذ أن تقلّد منصبه في 8 شباط عام 2016، ونصّب ترامب نفسه عدوّاً للإعلام الأمريكي، فأعلن ضدّها حرباً مفتوحة، ووجّه لها الانتقادات اللاذعة، وصوّب عليها تغريداته النارية، وقد احتقر بمجملها مفهوم الصحافة، متهماً إيّاها أنها منبع الأخبار الكاذبة، والتضليل، وعدم المهنية، وأنها عدوّة الشعب الأمريكي، كما أنها تمثّل حزب المعارضة.
وبالمقابل، هاجمت هذه الوسائل الإعلامية ترامب خلال حملته الانتخابية بسبب تصريحاته التي وصفها سياسيون ونخب إعلامية وفنية بـ”العنصرية”، و”تهدّد قيم الولايات المتحدة”، وأعلنت وسائل الإعلام الأمريكية صراحة انحيازها لمنافسته هيلاري كلينتون والحزب الديمقراطي خلال الانتخابات الرئاسية، ولكن لا يرجِّح المحلّلون حسمَ الجدال بين ترامب والصحافة في ظل الانقسام المستحكم الذي صار الواقع في السياسة الأمريكية. مع ذلك فإن التوتر الحاصل في وسائل الإعلام سابق لدخول ترامب المجال السياسي، إذ أن الصراع في عالم الإعلام هو أساساً الصراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
إن المعركة بين ترامب والإعلام، كما يرى بعض المحلّلين، ممتدة ومتشعبة ولأول مرة يبلغ هذا الحدّ المتصاعد من الصراع بين رئيس أمريكي والصحافة، ولاسيما أنه هاجم مؤخراً “فيسبوك” و”غوغل” و”تويتر”، واتهمهم بأنهم يتعمّدون تشويه صورته، كما أنه هو من أطلق مصطلح “الأخبار الزائفة”، معقباً بقوله: “هذه الأزمة تكشف الكثير ما كنّا لا نعلمه عن كواليس ودهاليز الإعلام الأمريكي”.
ولكن الأخطر من هذا أن هناك أزمة أخرى، تواجه الصحافة الأمريكية، بسبب قرارات اقتصادية للإدارة الأمريكية، بزيادة الرسوم الجمركية أو تعريفة الضرائب على ورق الصحف المستورد من كندا، لأنه أرخص من ورق شركات صناعة الورق بنسبة 30 بالمئة.
الصحف الأمريكية تعاني من أزمة ضخمة بسبب القرار، وفي هذا الصدد يتساءل محلّلون: “هل هذا القرار يعدّ انتقاماً من الصحافة أم محاولة لتحسين وضع الاقتصاد الأمريكي؟”.
يرى الرئيس ترامب أن الصحافة منبع الأخبار الكاذبة، وأنها عدوة الشعب كما أنها حزب المعارضة، ما دفع ببعض الصحف لشنّ حملة ضدّه في افتتاحياتها. وأطلقت صحيفة “بوسطن غلوب” الدعوة إلى إدانة واسعة في أنحاء الولايات المتحدة لما سمّته “الحرب القذرة” من الرئيس الأمريكي على وسائل الإعلام، وأطلقت هاشتاغ “لا أحد عدو”، فردّ ترامب في تغريداته، قائلاً: “أنتم صحف مفلسة لا قيمة لها والصحافة المطبوعة لم يعد لها قيمة، أنا متابعيّ على تويتر مئة مليون”.
وفي خطوة تصعيدية، منع ترامب دخول أبرز وسائل الإعلام الأمريكية إلى البيت الأبيض لتغطية مؤتمراته الصحفية، ما سبّب بموجة غضب عارمة في الأوساط الإعلامية الأمريكية، حيث ندّدت الكثير من وسائل الإعلام بهذا المنع، وعدّته خطوة انتقامية من قبل ترامب وأدرجته في إطار التعدّي على حرية الإعلام.
وفي سابقة تاريخية قام البيت الأبيض، بطرد عدد من مراسلي وسائل الإعلام الأمريكية المعروفة، ومنعهم من حضور إفادة صحفية دون كاميرات عقدها المتحدث باسم البيت الأبيض “سين سبايسر”، ويذكر من بين المنظمات الإعلامية الأمريكية التي منعت من حضور الإفادة، “سي إن إن”، و”نيويورك تايمز”، و”لوس أنجلس تايمز”، و”بوليتيكو”، و”بازفيد”، و”دايلي ميل”.
وخلال المؤتمر، دافع “شون سبايسر”، المتحدث باسم البيت الأبيض عن القرار قائلاً: “إن البيت الأبيض يعتزم مكافحة ما وصفها بالتغطية غير المنصفة”. وأضاف: “أعتقد أننا سنقاوم بقوة، لن نجلس ونترك الروايات الكاذبة والقصص الكاذبة والحقائق غير الدقيقة تخرج”.
وأظهر استطلاع للرأي، أجرته جامعة “كوينبياك الأمريكية”، أن 51 بالمئة من الناخبين الجمهوريين يعتقدون أن الصحافة “عدوّة للشعب مقابل كونها جزءاً مهماً من الديمقراطية”، في حين لم يشعر 52 بالمئة من أنصار الحزب الجمهوري من المستطلعة آراؤهم أن انتقاد ترامب سيؤدي إلى إثارة العنف ضد الصحفيين، غير أن 65 بالمئة، من إجمالي المستطلعة آراؤهم، يعتقدون أن وسائل الإعلام جزء مهمّ من الديمقراطية.
بدأت مشكلات ترامب مع “سي إن إن”، التي اتهمها ترامب بالانحياز الكامل لمصلحة منافسته هيلاري كلينتون. واختار الرئيس الأميركي أن يعبّر عن سخطه تجاه الشبكة بشكل غير مسبوق، فنشر على “تويتر” تسجيلاً يظهر فيه خلال مشاركته في إحدى مباريات المصارعة الحرّة سابقاً، وهو يلكم رأس أحد الموجودين، لكنّه استبدل رأس ذاك الشخص بشعار “سي إن إن”!.
بحسب ترامب، فإن الهجوم الذي يتعرّض له من وسائل الإعلام هو سبب أساسي يدفعه إلى التغريد بكثرة على “تويتر”، حيث يقول في إحدى تغريداته: “لو كانت الصحافة تمنحني تغطية دقيقة وشريفة، لامتلكتُ سبباً أضعف بكثير لكي أغرّد. للأسف، أنا لا أعرف إذا ما كان هذا سيحدث يوماً ما”.
إن موقف ترامب من وسائل الإعلام ينطلق من ثقته المفرطة بقوة حضوره، فقد قال في إحدى تصريحاته قائلاً: “أظهرُ على إحدى تلك البرامج فتزيد نسبة المشاهدين إلى ضعفين أو ثلاثة أضعاف.. وهذا يمنحك القوّة”.
ليس كل الإعلاميين ضدّ ترامب، فهناك “فوكس نيوز” موالية لليمين إيديولوجياً، حيث يجد ترامب ملجأه الآمن مقدماً لها بحوارات عديدة؛ وهذا يشير إلى أن هناك نوعين من الإعلام في الولايات المتحدة، المؤيّد والمعارض لترامب. وبالتالي هناك انقسام على مستوى الإعلام نفسه بين موالٍ للرئيس ومعارضٍ له.
طريقة تعامل الإعلام الأمريكي مع قصة “أوماروسا نيومان”، مساعدة الرئيس التي انقلبت عليه، كشفت عن جدلية العلاقة بين ترامب والإعلام بدرجة أكبر بكثير من افتتاحيات مئات الصحف الأمريكية التي رفضت اتهام ترامب للإعلام بأنه “عدو الأمريكيين”.
أوماروسا اتهمت ترامب على شاشات التلفزة بأنه “عنصري”. وقد أطلق ألفاظاً عنصرية تتضمن إهانة للسود. ولأن ترامب استخدم علناً منذ حملته الانتخابية تعبيرات مختلفة ذات ملامح عنصرية صريحة، لذلك فإن الضجّة الكبيرة التي أثارها الإعلام لم يستفد منها سوى ترامب نفسه الذي حظي طوال تلك المدّة بتغطية واسعة لمواقف من المسألة العرقية، هو يعلم جيداً أنها تروق لجمهوره، دون باقي الأمريكيين.
كتب ترامب على “تويتر” أن “جزءاً كبيراً جدّاًّ من الغضب الذي نراه اليوم في مجتمعنا ناجم عن التقارير الكاذبة وغير الدقيقة في وسائل الإعلام السائدة التي أشيرُ إليها بأنها أخبار كاذبة. لقد بات الأمر سيئاً للغاية وبغيضاً لدرجة لا يمكن وصفها. ينبغي على وسائل الإعلام أن تصلح وضعها”.
في الواقع، يجب عدم التقليل من دور وسائل الإعلام الأمريكية وتأثيرها في المجتمع؛ فهي جهة رقابية أمكنها سابقاً إزاحة الرئيس نيكسون الذي أُجبر على التنحّي في عام 1974، بفضل عمل صحافي دؤوب. كان الصحافي الأمريكي “بوب ودورز” أجرى تحقيقات كشفت تجسّس نيكسون على اجتماعات الديمقراطيين فيما عُرف بـ”فضيحة ووترغيت”.
لهذا إن الإعلام في الولايات المتحدة ذو منزلة قوية، فيمكنه فعلاً إزاحة رؤساء، إلا أنهم في هذه المرة عاجزون عن إزاحة ترامب وحدهم، لأن الصراع الحقيقي الخفيّ هو في أبرز جوانبه صراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.