ثقافةصحيفة البعث

غيوم القافية.. محمود حمودي يتنفس الشعر

 

“غيوم القافية”، العنوان في ذاته يحمل دلالات قيمة، تبيح الدخول في العوالم الشعرية للشاعر محمود حمودي، في مجموعته الشعرية الصادرة حديثا عن دار “عين الزهور للنشر” والتي تحمل العنوان الآنف الذكر؛ واحدة من تلك الدلالات هي الأصالة التي تنتجها كلمة القافية، والحذاقة في اختيار “غيوم” لما لهذه المفردة من إيحاءات تحمل بمدلولها مفهوما مختلفا للحداثة الشعرية، التي هي عند شاعرنا ليست في الشكل بل في اللغة، الفكرة، البساطة، البعد عن الزخرفة اللفظية؛ هذا وغيره من تلك الجماليات التي تحملها القصيدة العربية الكلاسيكية، هي ما وظفها الشاعر، لتكون في ديوانه الشعري الأول “غيوم القافية”، الحلم الذي تحقق بعد مداد متلاطم، وقف بين أصابعه، وهو يشرع في ستينيات القرن الماضي، لينجز قصيدته ولكن من على الجبهة مثلا، هنا حيث يحضر المكان كقيمة أصيلة في القصيدة، يعطيها الخلفية الحياتية النابضة، التي تتحرك أمامها ظلال الكلام، ليحيله شاعرنا إلى حروف تُقرأ، بعد أن كانت لواعج رجل، يحيا ويتنفس الشعر مع الموت.
يقول الشاعر حمودي في قصيدته (رسالة من الجبهة) وهي قصيدة غزلية، يصف فيها للمحبوبة حاله، حتى وأوار الحرب تشتعل، كحال الفحول الكبار، “لقد عيي اللسان عن الكلام/ وأشغلني هواك عن منامي/ وبت أراقب الجوزاء حتى/ جلى الإصباح آثار الظلام/ أهيم كشارب الصهباء أهذي/ وأذني لست أُسمعها كلامي”.
الموضوعات في “غيوم القافية”، هي موضوعات قصيدة العمود العامة، “الرثاء الفخر، المدح، الغزل، الوصف” لكن الشاعر يذهب بأسلوب مختلف في تقديم قصيدته وكأنها كائن مستقل بذاته، وما تحمله من موضوع، هو موضوع أبدي، وجودي، مستمر، وهذا ما يحسب للشاعر في صياغة واحدة من اعقد الأنواع الشعرية، دون تكلف في الألفاظ، ولا حشو للقوافي، وبلا أي تزيين مبالغ فيه لما يستشعره، فتجيء قصيدته خاصة وعامة، خاصة في كونها قيامة لحالة صافية من الحلم، وعامة لكونها، تحكي ربما ما يجول في خاطر القراء، فالإيجاز واللغة والوضوح، الذي تميل إليه قصيدة النثر عموما، يطوعها حمودي لصالح قصيدة العمود، فتتبدى حداثتها من إيحاءات تراكيبها، والعلائق اللغوية بين مفرداتها وتجرد خيالاتها من المبالغة الوصفية، فهو عندما يتغزل، يتفنن في التنويع على مكامن الغزل، حتى تلك القاسية منها، والتي تذكر بالمزاج العام للقصيدة في زمن الأندلس، يقول الشاعر في قصيدة (رسالة): “لعمري لئن أصبحت مثلي على النوى/ تلاقين ما لاقيت قد عدل الحكم/فما اكتحلتا عيناي مذ بنت بالكرى/ولا سكن القلب المعنى من الألم/ نهاري أقضيه بذكرك مطرقا/ وليلي من جرّاك أورثني السقم”.
“غيوم القافية” وباعتباره المجموعة الأولى التي تصدر للشاعر بعد حياة طويلة، قضاها يكتب الشعر دون أن يفكر في طباعته، لأنه مفطور على فطرة الشعراء الكبار، فهؤلاء لم تكن قصائدهم لتوضع على الورق إلا بعد زمن من كتابتها، ذاك أن الناس يحفظون قصائدهم وينقلوها شفاهية، وبعد أن استراح المحارب من نوبة الحرس الطويلة، تلك التي قضاها بين أقصى القلب وأقصى الوطن، كان أن نزل أخيرا عند رغبة الأصدقاء والأبناء، وطبع مجموعته الأولى، والتي تحوي قصائد تنتمي إلى أزمنة متنوعة ومختلفة زمنيا، وفي واحدة من قصائده الأجمل في الغزل الذي يرسله إلى خطيبته التي صارت شريكة حياته يقول تحت عنوان “سأبني لك بيتا دعائمه الشعر”: سأبني لك بيتا دعائمه الشعر/ يزين جيد الدهر ما بقي الدهر/ويسري مسار النجم في كل بقعة، يسير فيها أهل البوادي والحضر، فلا تفرحي بالبيت ينتابه الهدم/ وقولي فخاري إن ذكر القصر “وإني بفخري سابق صاحب الغنى/ إلى المكرمات الغر هذا ولا فخر/لأني من الأحرار أصلا ومحتدا/ وعهد الكريم الحر يحفظه الحر”.
يلاحظ كيف يصبح الفخر هو مفتاح المشاعر، فالقصيدة فيها الثيمتان معا، وهذا عهد شعراء العمود الكبار، الفخر بالنفس، بشمائلها ومعدنها وسموها، حتى والغزل محتدم في خاطر القصيدة، وها هي قصيدة أخرى يحضر فيها المكان كخلفية تجري أمامها الأحداث وكأنها مونولوج طويل يرسله من سطعت على كبده نار الوحي الموقدة، القصيدة بعنوان “رسالة لها من الجبهة” يقول فيها: “أصلي عليك كلما خطر الهوى ببالي/ وما هبت جنوب بشمال/ أحملها مني إليك تحية/ معطرة الأنفاس ريا القرنقل/ وإن أنسك لا عشت يوما منعما/ولا سعت أذني ولا فاه مقولي.
يحضر المكان في قصائد “غيوم القافية” كجزء أصيل من مفرداتها، إذ أن العديد من أسماء الأماكن السورية، تحضر في قصيدته “الجبهة/ طرطوس/ اللاذقية/ الرمل الشمالي/”، هذه الأماكن كانت أن تركت في دواخله الأثر الكافي والعميق، ليكون ذكرها في القصيدة، من وحدة القصيدة وبنيتها، لا كذكر طارئ عليها، وهو وإن يشح في وصفها، فذاك لأنه يقدمها ولكن على طريقته، إنه من خلال حوادث معينة، شغلت باله فيها قصائده، فكانت من صميم التجربة، تجربته الحياتية اليومية، تلك التي يبتعد تماما عن الخوض في تفاصيلها، لأنه يرى كشاعر الكل بالكل، والكمال في الكمال، والشعر في صندوق نفائس الدنيا، يقول متغزلا بحبيبة الأمس واليوم والغد: “أيا حي رمل اللاذقية إنني/ لأهلك تواق لمن لا يزورني/ لمن في هواها بات قلبي معذبا/ وحبي لها أبرى العظام وشفني/ وأنحل جسمي واستفاضت مدامعي/ وطرفي على قلبي جنى وأذلني/ وما ذنب طرفي إذا رآها فجأة/ فعلقتها عرضا ولست بمنثني”.
تتنوع القصائد ومواضيعها في “غيوم القافية”، تارة تكون حزينة، وأخرى فرحة، أحيانا كثيرة عاشقة وفي أحيانا أخرى تحن، لكن ما يجمعها ويجعلها كأنها لؤلؤ في عقد منظوم، هو لغة الشاعر وأسلوبه الفني في صياغة كل ذاك الجمال الذي يجلس في خاطره.
تمّام علي بركات