“موشحات” محلية جدا
> تبتهج شاشاتنا المحلية الفضائية والأرضية في برامجها الصباحية شبه الموحدة عليها جميعاً، تبتهج وتحتفل و”ينطّ” معدوها ولا يقعدون عندما يجدون أخيراً ضيفاً يحل عليهم، وعلينا، وعلى قلوب المشاهدين!.. من أين يأتون بالضيوف، والضيف الواحد تراه متقافزاً بين هذا الأستوديو وآخر بقربه، كل عائد لقناة.
ليس المهم أن يكون لديه، أي الضيف، أية علاقة بما هو سبب حضوره الصباحي المبكر هذا، يعني ليس شرطاً إن كان مغنياً أن يكون صوته جميلاً، وإن كان عازفاً أن يعرف كيف يمسك آلته الموسيقية، المهم أنه موجود، و”كلو في حبك يهون”.
بالنسبة إلى الألقاب، وفخامة الأوصاف من قبيل: “الشاعر-الأديب-الكاتب-الناقد-المفكر-الموسيقي”، فهي “ببلاش”، و”اللي ببلاش كتر منو” كما يقال، يتهيأ المتفرج ليستمع إلى قصيدة من شاعر الغبرة، فلا يجد قصيدة ولا من يحزنون، هذا عدا عن الأسئلة الغرائبية القادمة من عوالم مختلفة على مبدأ من كل بيدر “زيوانة”، والتي يرمى بها الضيف من قبيل: هل الشعر ضروري؟ وما أهميته لنا؟ كيف يصبح الشاعر شاعراً؟ متى شعرت أيها الشاعر بنفسك أنك شاعر؟ وهكذا، أسئلة لها علاقة بكل شيء إلا الشعر.
رؤية الضيف منزوياً على نفسه ليس قادراً على الكلام أحياناً، تُشعر المتفرجين وكأنه تم القُبض عليه متلبّساً!، لونه أصفر، وجهه مكفهر، عدا طبعا المخضرمين في الظهور، فهؤلاء يأكلون الهواء بخبرتهم الطويلة التي اكتسبوها من طول تواجدهم في تلك الأماكن.
بالتأكيد ليس مطلوبا من مقدم أو مقدمة البرنامج، أن تكون اختصاصية في كل شيء، في الشعر والفلسفة والتاريخ والبابا غنوج والأغاني وميتافيزيقية الوجود، لكن هذا لا يعني ألا يعمل أحدهم على تطوير المهارات المطلوبة في مهنته، أو على الأقل بعضها، وهي لا تحتاج من الوقت، أكثر ما يحتاجه الوقوف أمام المرآة والجلوس تحت يدي مصفف الشعر والحيرة في انتقاء الزي المناسب لليوم المناسب، والرد على التعليقات واللايكات المحيرة فعلا.
> ما على الطلاب الراغبين بتعلّم الفنون في سورية إلا هجر مدنهم ومحافظاتهم وقراهم، والقدوم إلى العاصمة، فمن استطاع إلى ذلك سبيلاً سيكون له حديث آخر مع “الواسطة” التي ستيسّر له الأمر، ومن لم يستطع ذلك فما عليه إلا أن يبحث لمواهبه وشغفه عن منفذ آخر ربما يستطيع أن يعبّر به عنها، وإنه لمن الغريب والعجيب فعلاً أن تكتظ العاصمة بمختلف وسائل، وأدوات، وأساليب تعلّم الفنون، وفي مساحة جغرافية واحدة لا يتجاوز قطرها الـ 2كم، من كلية الآداب في دمشق، مروراً بالتلفزيون، ودار الأوبرا، والمعهد العالي للفنون المسرحية في ساحة الأمويين، وليس انتهاء بدور السينما، والمسارح المتواجدة على مقربة من بعضها البعض، بينما مثلاً حلم طويلاً شباب الجزيرة السورية، بل وحتى المحافظات الوسطى بمعهد ولو “من قريبو” لتعلّم ما يريدون من الفنون.
الهيمنة الثقافية للعاصمة على حساب باقي المحافظات السورية الأخرى، وهذا الاحتكار الذي لم ينته للشأن الثقافي دفعنا ثمنه غالياً عندما انصرف العديد من أبنائنا إلى التعبير بعنف عن ميولهم، وتُعتبر الفنون عموما، تعليمها ونشرها، من أهم أدوات محاربة الجهل والتخلف وبالتالي الإرهاب، فلتتوزع الأكاديميات والمعاهد العامة والخاصة ودور السينما والمسارح على المدن السورية جميعها، خصوصا تلك البعيدة عن المركز.
> بوادر الانكفاء المسرحي– على قلته- ظهرت بشكل متبرم على لسان العديد من المسرحيين السوريين الذين وجدوا في قرار تخفيض أجورهم جوراً كبيراً يلحق بالمسرح بالدرجة الأولى، خصوصاً أن هذا الفن لديه ما يكفيه من معاناة جعلته شبه تائه بين العديد من الفنون الأخرى التي صارت تشد الناس، والتي تعتبر ضخامة تمويلها هي السبب الأول في شهرتها، على عكس المسرح والعاملين فيه، فلاتزال خشباتنا تغص بالفقر، ومازال مسرحيونا يعدون حتى المليون قبل التفكير بعمل مسرحي، دون أن يضطروا للذهاب إلى “سبونسر”، يفرض عليهم شروطاً تجارية بحتة، آخر همها هو المسرح.
> التعامل مع فن “العتابا” العريق، كفن من الدرجة الثانية أو حتى العاشرة –كما يحدث-هو ظلم كبير لهذا الفن الأصيل الذي يتكئ على ثقافة عريقة وأوزان كلاسيكية، وظلم بحق فنانيه ومؤدّيه الكبار الذين لا يعجبون خاطر “السميعة الكلاسيكيين” على ما يبدو، كما أن كاميرا برامجنا المنوّعة لا تجدهم وسيمين و”فري” أو “كول” أمامها.
العجيب أننا ندرجه –أي فن العتابا-على لائحة الفنون الشعبية كتصنيف وليس كقيمة، ثم نتكلم كثيراً وطويلاً عن الأصالة والتراث، وعند الجد نصبح جميعاً نريد “كسارة البندق”. البندق أطيب ربما!.
> رغم انحسار الإعلام المطبوع –الصحف الورقية-شعبوياً، إلا أن حقيقة الواقع تثبت أنه لا يزال نواة الارتكاز الفعلية للمنظومة الإعلامية المرئية منها والمسموعة، سواء في إعلامنا المحلي أم غيره، فالمتابع لما يُبثّ ويُذاع وينشر إلكترونياً يلاحظ فوراً اتكاء هذا الإعلام على الإعلام المطبوع إن كان في تقاريره الإخبارية السياسية أو الثقافية أو الفنية، في الوقت الذي يعاني فيه الإعلام المطبوع من انحسار غير معهود، بعد أن يقوم كل من التلفزيون والراديو بامتصاص خيره كله كما يقال.
الصحافة الورقية هي الأبقى وهي من يعوّل عليها، إنها معمولة بحرارة القلم والفكر والقلب، ومن المخجل أن تبقى الكلمة الورقية رخيصة القيمة المادية، في الوقت الذي تُدفع فيه الملايين لها لتغيّر وجهتها. إعلامنا الورقي السوري هو رائد الإعلام العربي، فلنعطِه حقّه كما يستحق.
تمّام علي بركات