أطياف في دائرة الذكرى
في ربوع الذكرى ومشهدية الحنين، أحن والحنين قوتي، أجوب ذاكرتي لأستشهد بخبز البلاد.. بلاد الشمس والماء وبركة أيامها قبل أن تندلع ألسنة الحرب وهشيمها النار، بعنفوان الرمز وأقاصيص بنيانها الحب ولم شمل تفاصيل السلام إن حاولت نيران معتد تفرقتها فهناك كان ما يكفي في وطني لإخمادها.
في صلوات الحصاد عند سهل تلك القرية العذراء، تعسكر حقولٌ مترعة بالقمح والغار، بعيداً عنها في أيّام القطاف، يحدث أن يكون لذاك العاشق لقاءٌ لامع بفتاةٍ ذراعاها مشغولتان طوالَ النّهار بالأغصان الهشّة، تحمل منجل الحب، تقلم اليابس من جفاف ألمه سنابل من قبل البلاد، لتزين البيادر بشوق اللقاءات ونجوى السلام، قصائد وألحانا، وتحتضن دفء اليانع منها لتعيد قطفه ياسمينا من قوافل تنثره في أيام القحط على ذرا قاسيون، لتتغلغل هي بحبيبها الوطن ويتغلغل عاشقها بها غراما، بقبلة لترابه الشامخ العصي على الانحناء، وحينها يحدث بينهما جموح حاشد لوقع خطا ذاك الجندي المرابط على التخوم حول حقليهما، وحيال الأرض حراسا للقلب بنبضه وأمناء، والنفس في علوه حياة، أمناء على شروق الشمس كل فجر فوق البيادر والطرقات.
هناك يحدث أن يعيد الاطمئنان للصيف مغردا لهما ولكل القادمين من لجوئهم القسري لكل واحد على انفراد، معلنا أنشودته مرة صمتا، ومرة عتبا ومرة أهزوجة حرية بحرية تلتف خلفها كل وشوشات المراكب والقوافل ومجارفها الزرقاء، ليقارنوها امتنانا بكل تلك المراكب الغريبة التي ساقت أقدارهم المتحاربة إلى تخوم شواطئ غدارة لم تستطع إلا أن تبصق أقدامهم لتشتتهم وتشي بهم غيمة غيمة، ودمعة دمعة على حواف سنوات سبع عجاف، تنكرت لصيفها ولبحرها ولكلا العاشقين في الداخل اللذين بقيا صامدين على أهبة الصبر والانتظار.
ويحدث هناك أن خريفا أنبأ غده بتشريع الفصول لقدومه على نتاج البنادر مسوقا بدايته بعاصفة هوجاء، تلهب معها شرارة أول شر وحلم بآخر شر لتلك الحرب الشعثاء المعصبة العينين والعمياء البصيرة في توجهاتها ووجهتها، لتستعر جنونا مصدقة نبوءة الخريف وشؤم عرافي الزمن الذين لم يفلحوا بالبشرى لساعات تنوير تضيء المفارق، بل بعصر حالك الظلمة كل ما فيه أسود، ويصير حينها هجوم كاسح لرايات وجحافل سوداء كنمل اسود يحمل أنيابه على كفيه وأرواح من أمامه، مخططا لهدفه، مرددا تكبيراته: حان وقت قطاف الرؤوس والحقيقة، فأبدعي أيتها المناجل في هدفك، ومع كل خطوة لتلك الهجمة البربرية تتحد السماء والشمس مع ارض كهنوت الخير والحب لتقف بشبابها وعطرها ونجومها ومجراتها ومضايقها وضيقتها بوجههم الكالح، لتنثر منثور الضوء والحق، فتتلعثم خطاهم لتسقط في حفرة ما زرعوه كيدا يعاد بألف سيف، وقبحا بألف كف مفتوح للجمال والسماء والحق والخير، وتصيح الأنهار: بردى لك قلوبنا لقد انتصر الحب وزهق الباطل فمر بنا غراما وصيفا.
حان للكرمة أن تنضج سكرا وشموخا، وحان للبطون التي حملت شهداء ورياحين أن تلد عناوين غار ونصر، وحان للفجر أن يحيا على جبهات كل طفل لتمحو كل بؤس بعناق أم ثكلى ما حزنت يوما، بل تتوجت بآيات الغفران والصبر مروجة لربيع الكلمات وقداسة التراب، تبرا من ضوء لا يفنى أو يتبدد يوما لا بظلام ولا نهر، ويصير بما لا ينسى أن تجارا بمضامين (شايلوت) المقامرين على تلك العودة والبدء، متسابقين لأكل ماتيسر من قوت العباد والأولاد والعصافير، وحتى بقايا ريش الطير، ليقفوا بحلوقهم المفتوحة على الجوع ليضعوا العصي في وجه كل قادم خير، ليقولون حان موسمنا نحن فل الخريف وحل شتاءنا، مواقدنا بحاجة لمال آمالكم وأعواد زنودكم التي دافعت وبقيت لتكون هنا ونبقى نحن، وتتكاثر أياد فاسدة المنشأ وغوغائية الوجهة مطامعها كراس تنهب، وجيوب تلتف على معيشة الزرع والورد، وأبر تحيك مآرب الصيد الوفير والرزق اليسير من شعلة كل فكر ومن صلوات كل حلم، أن يصير هذا البيت الجامع للأطياف متحررا من كل فساد ومربع لكل لون، وفي أدراج الخزائن أقلام من كيد وتطرف تسن أسنانها بشرائع تنفي الأخ عن حب أخيه، والعاشق عن عطر معشوقته، وتفصل الأهداب عن العين بمواثيق واهية تخز صدر الأنام وتترك محلها كل نكران ورفض، وتحاول قوى الانفلات فرض طاغوتها بمناهج تعلم القسمة لا الجمع ولم الشمل، وتعمل كل الوسائل على تقديم خشوعها منافذ، أماكن مرافق، قوانين، أناس تلبية لإرضاء ما نوى عليه وما ارتسم على جبهة الأيام، تنفيذا لحكم سلطان الباعة والضلال والظلام من أتون الليل،
وعلى الرغم مما صار تهب الأرواح والآفاق والمجرات، وتغرد السلامات تصحيحا لسلام صيرورة النور في مجراه الصحيح، ليعود كل معتد لموطنه، وكل فاسد لبتر يده من موطنها الكفر، ويزغرد الأشراف هذه بلادنا، هذه بيادرنا، هذه مرابعنا وهذه قلوبنا: موطني عليك السلام واليك السلام شفاء وإجلالا وحبا، من كل أفاق ومنافق ومحتل وحائر لحبك وعن حبك: كل الأوجاع زائلة، كل الشخوصات فانية، وحدك الباقي شوقا وأبدا، قدوسا في ملكوتك العلى لا تضام أو تدمع فيك أي عين.
رشا الصالح