الطرق الجهنمية لطبخ الملوخية
د. نهلة عيسى
الملوخية, أو “الملوكية” سابقاً, عندما كانت العزيزة الغالية على موائد علية القوم, هي الآن أكلة العرب الشعبية, تطبخ مع الأرانب عند الأشقاء المصريين, أو مع اللحم الضاني عند الميسورين, أو الدجاج عند متوسطي الحال, ويكتفى في هذا الزمان بطبخها بالكزبرة والتوم عندي وعند معظم الأهل والخلان, يرافقها على معظم الموائد رز أبيض لديه ميول غريبة للتمرغ في أحضانها, والتلون بألوانها, رغم بشاعة اللون, ولكن رحم الله من قال: ومن الحب ما قتل, وفي حالة الرز: ومن الحب ما قلل القيمة وسود الوجه!!
لكن ذلك ليس قضيتي, فلا أنا أطبخها ولا أعشقها, وعلاقتي بها علاقة الضرورة, أي علاقة الجائع بالمتوفر, ولكن ما يشدني إليها تلك الرحلة التي قطعتها من موائد خاصة الناس إلى بيوت أبسط الناس, بل حتى إلى معلبات على رفوف المحلات تستجدي من يشتريها, أي الرحلة من الأرانب والضأن إلى الكزبرة والتوم, والتي تذكرني برحلة كل مشاريعنا الحكومية, التي تبدأ على الألسنة والورق مهولة, دسمة, شهية, وتنتهي بالفعل بافتتاح مخبز, أو تدشين حنفية!!
أعود للتذكير, طبخ الملوخية ليس قضيتي, ولكن رحلتها من القصور إلى الرفوف, تذكرني بحكم التجار في بلادنا حيث يحولون الذهب إلى تراب, و”الفسيخ إلى شربات” حينما تقتضي مصلحتهم أن يكون ذلك فيكون, ما دامت القوانين تمرر من ثقوبها الأفيال, فيصبح المنزل في بلادنا حتى في العشوائيات بملايين الملايين وتصير السيارة كماليات, والبنزين أغلى من الخمر, وكيلو الخضار أغلى من السجائر, والدواء نار, والمشاريع ورق, والبطالة بندقية, والراتب مصروف جيب وليس مصروف عيش, وتصريحات تقودك إلى حكمة: أن صنعة الحكم في بلادنا هي اللطف في كلام, ما دام الكلام سيبقى كلاماً, حيث ليس على من يديرون شؤوننا حرج, فالحرب عكاز جاهز, والمتكئين كثر!!
طبخ الملوخية ليس قضيتي, ولكن أحوالنا أصبحت ملوخية, والمتعبون صاروا جحافل من موظفين وعمال وفلاحين وباعة متجولين وجنودا مسرحين متعطلين وباعة يانصيب وحراس مزارات ورعاة وغيرهم, أولئك الذين يحكمهم الجميع باسمهم (باسم الشعب), وتعقد الصفقات باسمهم, وتسن الشرائع والقوانين باسمهم, وتخاض الحروب باسمهم, أولئك الذين يشبهون عصافير الدوري يعيشون ويموتون دون أن يسمع بهم أحد, إلا إذا ارتكبوا جريمة, والمأساة أن حياتهم باتت أشبه بالجريمة, وليس هناك من مسؤول يقر أو يعترف, خاصة وأن المسؤول في بلادنا كائن خرافي, سرمدي, مستحيل, أشبه بالرخ أو العنقاء, له ألف وجه ووجه, وألف اسم واسم، ولذلك صعب معرفة من هو المسؤول, ولا من هو القاتل ولا من هي الضحية!؟
ولأنه من المستحيل إصلاح الحال بلا مسؤول عن أو مسؤول من؟ صار حالنا نصوصاً عنيفة شاكية غاضبة اقصائية على مواقع التواصل الاجتماعي, نمنن فيها الوطن ونعايره وندينه ونشتمه ونكفر به, ونعامله وكأنه شخص مسؤول تمام المسؤولية عن أخطاء المسؤولين, وأظن أننا الشعب الوحيد في العالم الذي يوازي أو يساوي وطناً بأشخاص, لأن هؤلاء الأشخاص لطالما تعاملوا مع الشعب باعتبار أنهم هم الوطن, والوطن هم!؟
ولهذا أليس طبيعياً أن أحوالنا أصبحت ملوخية,؟ أظن أنه ليس طبيعياً فقط بل وبديهياً, ولذلك فلتذهب إلى الجحيم جميع المحسنات البديعية والبيانية واللفظية, فأخبار الحفلات المخملية والنقوط بمئات الألوف ترمى على الراقصات, مع الجرائم والسرقات وتعاطي المخدرات صارت أحاديث صباحنا, تخبرنا بأننا أصبحنا فقط طبقتين, الفوق فوق والتحت تحت, وأننا نربي جيلاً من القتلة والمجرمين, لأن الفوق اليوم ليسوا الفنانين ولا المثقفين ولا المتعلمين ولا رجال الصناعة والاقتصاد ولا الأخيار من رجال الدين, بل هم حثالة الحرب وتجارها, وسارقي اللقم من معدة الجائعين, ولذلك لا عجب إذا جاء يوم انقضت فيه صفحات الجرائم على صفحات الفنون والثقافة والسياسة في جرائدنا, فالأخبار يصنعها واقع الحال, وواقع الحال يشير بأصابع الاتهام إلى خططنا الجهنمية لطبخ الملوخية!!