حطّ ليلاً ورحل فجراً
البعث-تونس-محمد بوعود:
مازالت الجولة التي يقوم بها ولي عهد النظام السعودي إلى عدد من الدول العربية، تثير الكثير من ردود الأفعال المستهجنة، والمنددة بالتاريخ الدموي لـ “ابن سلمان”، والرافضة لوجوده على أراضي هذه الدول.
ابن سلمان، وعلى عكس أسلافه، قليل الزيارات للبلدان العربية- والذين كانوا يلاقون ترحاباً كبيراً، ربما لمكانة بلادهم عند العرب والمسلمين، ولسخاء ما يدفعونه من أموال بلا حساب- وجد هذه المرّة في استقباله القبضات الغاضبة، وصيحات الاستهجان، وشعارات الرفض والمطالبة بالرحيل، ووجد في تونس لافتة كبيرة عُلّقت على كامل الجدار الخارجي لمقر نقابة الصحفيين التونسيين، فيها صورته وقد أدبر بعقاله وحطّته راحلاً، وكُتب عليها بالبُنط العريض: لا حللت أهلاً ولا نزلت سهلاً.
وجد أيضاً في الجزائر لافتات في مقرات الأحزاب والنقابات وعلى الأبواب والنوافذ، نقش عليها أحرار الجزائر شعارات من قبيل: أرض الشهداء لا يطؤها سفّاح، والجزائر أشرف من أن تستقبل قاتل أطفال اليمن.
موريتانيا تحضّرت بدورها لاستقباله بيافطات: “لا تدخل أرض شنقيط، وأخرج منها فأنت لعين”.
الجموع الحاشدة خرجت إلى قلب شارع بورقيبة في مناسبتين، مساء الاثنين وظهر الثلاثاء، ولم تترك شعارات إلا وهتفت بها، وأحرقت صور ابن سلمان في قلب الشارع الرئيسي للعاصمة، وبعيداً بأمتار فقط عن مقر وزارة الداخلية، التي لازمت الصمت، واحترمت حقّ المواطنين في الاحتجاج على زيارة سفاّح، لا يريدونه أن يطأ أرض بلادهم.
كما كانت ردود الفعل قويّة من الأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية والجمعيات والروابط الشعبية، فباستثناء حزب “نداء تونس”، الذي رحّب به نكاية في خصومه، و”حركة النهضة” التي لازمت الصمت خوفاً من انعكاسات ذلك على علاقاتها الإقليمية المتشعّبة، والمرتكزة على سياسة المحاور، فإن باقي الأحزاب البرلمانية، في الحكم وفي المعارضة، قد أكدت جميعاً في بياناتها، وخطابات مسؤوليها، أنها لا ترحّب بزيارة الأمير الذي تلطّخت يداه بدم أطفال اليمن، وشعب سورية، والعراق، ولبنان، والذي ارتكب أفظع جريمة في حقّ أحد مواطنيه، الصحفي جمال الخاشقجي.
وإذا كانت نقابة الصحفيين قد تصدّرت المشهد المعارض بشدّة لزيارة ابن سلمان، فإن رابطة حقوق الانسان، وجمعية النساء الديمقراطيات، وهيئة الدفاع عن المقاومة العربية، ولجنة الدفاع عن فلسطين، وغيرها من الهيئات قد عبّرت كل منها بطريقتها، عن رفضها القوي لزيارة ولي العهد، واعتبرتها تدنيساً لأراضي تونس، واعتداء على مبادئ وقيم ناضل التونسيون، ودفعوا الغالي والنفيس من أجل تكريسها.
ولعلّ الملفت في زيارة ابن سلمان أنها، ورغم ما حاولت رئاسة الجمهورية أن تضفيه عليها من أهمية، فإنها كانت على شكّل تسلّل قام به الأمير ليلاً، ولفترة وجيزة لم تتجاوز بضع ساعات، جرى أغلبها في مطار العوينة العسكري المحاذي لمطار تونس قرطاج، وغابت عنها تقريباً جُلّ وسائل الإعلام التونسية، الرسمية والخاصة، وتكفّلت قنوات تلفزية سعودية بتغطيتها في بثّ مباشر لم يستطع أن يخفي الارتباك الذي ظهر على الضيف غير المرغوب فيه، وعلى وجوه مستقبليه أيضاً.
صحيح أن بعض وسائل الإعلام الالكترونية والمنابر المقرّبة من رئاسة الجمهورية، وحتى المناكفة لـ “حركة النهضة”، حاولت أن تتحدّث عن ودائع مالية ضخمة وضعها الأمير في البنك المركزي التونسي، وعن مساعدات عسكرية وطائرات مقاتلة هدية للجيش التونسي، إلا أن المتابعين للشأن العام في تونس، ينفون ذلك جملة وتفصيلاً، ويعتبرونها مجرد أكاذيب ومزايدات فارغة، لا علاقة لها بواقع الزيارة التي جاءت بطلب من ولي العهد، لتبييض صورته التي تلطّخت كثيراً في الفترة الأخيرة، وهي زيارات لدول يعتبرها من محيط حلفائه، ومن الموالين له، وكان يعتقد أنها ستستقبله بحفاوة تعيد نوعاً من بريق لصورته التي يستعد لنشرها في قمّة العشرين التي ستنعقد في الأرجنتين، والتي يراهن كثيراً عليها لإبقائه في الصف الأول لتولي الحكم في المملكة، خاصة وأن هناك تململاً كبيراً داخل الأسرة الحاكمة، وخوفاً من المستقبل، الذي بات غامضاً، ومرتبطاً أشد الارتباط بالإدارة الأمريكية، التي لم يخف رئيسها في تصريحاته العلنية وتغريداته على تويتر، أنه هو الوحيد القادر على ضمان بقاء حكم آل سعود، وأنه لو تخلّى عنه، فسيسقطون في أسبوع.
ابن سلمان يعرف جيّداً أن بقاءه في الحكم رهن بما يدفعه من أموال، وأن نهايته قد تكون في إشارة واحدة من ترامب، وأن دوره ينحصر فقط في ضخّ النفط والمال ومحاربة إيران والتطبيع مع الكيان الصهيوني، وأن الأمريكي متى ما وجد بديلاً جاهزاً لهذه الملفات، فسيستغني عنه في رمشة عين، وهو ما دفعه لمحاولة تبييض صورته، والخروج من عزلته، إلا أن زياراته فشلت فشلاً ذريعاً، وقوبل برفض شعبي وحزبي ونقابي وجمعياتي لا سابق له، ولا يعتقد عاقل أنه سيقدم على تكرار الزيارة مرة أخرى.