ثقافةصحيفة البعث

حماية إرث وتصويب تاريخ

عقود من الزمن تعاقبت على الحرب العالمية الثانية إلا أنها كانت ولا زالت حتى اليوم تشكل محوراً هاماً للعديد من الأعمال السينمائية وما زال صناع السينما ينقبون في ثنايا الكتب وذاكرة الناجين منها عن قصص وحكايات تكون محوراً لأعمال يأملون أن تُضم إلى سابقاتها التي تعد من كلاسيكيات السينما العالمية؛ تتم العودة إليها دائماً سواء لقيمتها الفنية والصنعة المميزة وللإشكالات الأخلاقية التي تناولتها، إذ تبقى الحروب بقسوتها والمآسي التي تخلفها موضوعاً يثير اهتمام العاملين في مجالات العلوم الإنسانية والسينما من بينها ولعلها الحامل الأكبر المسؤول عن تصدير وتبني الهموم المجتمعية وقضاياه، وهؤلاء عملوا منذ البدايات على رصدها من زوايا عديدة.
هكذا تناولت السينما حادثات شهيرة وموثقة حيناً واختارت أن تبني على الخيال حيناً آخر، فأتت أفلام مثل “بورا بورا” الذي وثق لحادثة الهجوم الياباني على القاعدة البحرية في “بيرل هاربر” أضاء خلاله المخرج فوكاساكو على دقة إعداد اليابانيين للهجوم ومن جهة أخرى ركز على أخطاء الأمريكيين.
أما “الجحيم” فاعتمد على الحكاية المتخيلة والرمزية التي حملتها شخصيات المخرج “سيدني لوميت” بينما اختار مخرج فيلم “القارئ” الذي أنتج في العام 2008 حكاية حقيقية وقعت أحداثها في ألمانيا ما بعد الحرب وناقش عبره بعض الإشكالات الأخلاقية والمخاوف الذاتية لشخوص القصة والأسئلة التي شغلت الصبي ابن الخامسة عشرة حين عمل قارئاً لحارسة المعتقل “كيت وينسلت”.
لتأتي مشاعر الخوف والغدر والخيانة الشخصية والمشاعر المتناقضة مجسدة في الجندي “فاسيلي” الذي شارك في معركة ستالينغراد الشهيرة والتي كانت محور فيلم المخرج “جاك أنوود” الذي أخرجه في العام 2001 مصوراً المعركة بواقعيتها المخيفة وقد أفضت إلى انتصار السوفييت رغم الصعوبات التي أحاطت بالمعركة.
وحتى “كافكا” بأجوائه الغامضة كان له حضوره في تلك الأعمال عبر ئلاثية للمخرج المثير للجدل “لارس فون تيرنر” والتي اعتمد في نسخة حملت اسم أوروبا على روايته “أمريكا” وتطرح العديد من الأسئلة الماورائية والنفسية عبر حكاية الصبي “ليوبولد كيسلر”.
قد تطول قائمة الأفلام التي كانت الحرب محورها، وقد لا تتسع لأعمال هي من كلاسيكيات السينما العالمية توثق لها أو تضيء على تداعياتها، قديمها أو الحديث منها بعضها حاز على أوسكارات ونال الآخر تنويهات وشهادات من الجمهور، من “مانفيستو” الذي وازى الخيانة والتعامل مع النازيين بمن باع روحه للشيطان، إلى “داون فول” الذي وبعيداً عن المعارك وتحركات الجماهير اختار أن يتناول الأيام العشرة الأخيرة لأدولف هتلر، إلى “قائمة شيندلر” و”الخط الأحمر الرفيع” “الحياة الجميلة ” وسواها حتى أن اليابانيين تناولوا الأمر في واحد من أروع أفلام الرسوم المتحركة “the grave of the fireflies” ويصور حال الناجين من نار الحروب الذين تتلقفهم حياة الوحدة والتشرد والجوع.
بينما تم تناول “معركة العلمين” التي شهدت أحداثها الصحراء المصرية والتي غيرت موازين الحرب، تم تناولها في أكثر من عمل أولها “انتصار الصحراء” الذي أنجز في العام 1943 من قبل البريطانيين وحاز جائزة الأوسكار وأخذ عليه التحيز الواضح لدور الحليف البريطاني والذي تم تبريره بعدم امتلاك الطرف الأمريكي لصور ووثائق خاصة تبرز دوره، في العام 1958 عمل الألمان والمصريون على إنجاز نسختهم الخاصة في “العلمين”، ليُرصد في “معركة العلمين” عام 1969 بإنتاج مشترك إيطالي فرنسي، وفي 2002 انفرد الإيطاليون بإنتاج خاص بهم هو “العلمين – خط النار” وفيه كان التعاطف أكبر والإضاءة أوضح على دورهم في الحرب؟.
يوم الجمعة الفائت كان العرض الخاص للفيلم الإيراني “كويرس موطني الصغير” للمخرج سعيد صادقي وهو فيلم يمكن توصيفه بالوثائقي إذ اعتمد إعادة إنتاج بعض الوقائع الحقيقية عاشها عدداً من الجنود والضباط الذين نجوا من حصار ثلاث سنوات وبضعة أشهر على المطار الشهير، وهو الفيلم الثاني بعد فيلم “بتوقيت دمشق” الذي بني على وقائع الحرب الحالية، ورغم العديد من الأفلام السورية التي أنجزت حول هذه المرحلة والتي لاقت الكثير من النجاحات، فقد تمنت الجهة المنتجة خلال العرض على السوريين العمل على إنجاز أعمالهم الخاصة في هذا المجال وهو يعلم ونحن نعلم أن حرباً دامت سنوات سبع لا بد تركت الآلاف من القصص والحكايات التي تستحق أن تخلد عبر السينما، ورغم أن الأمر ليس باليسير ويتطلب الدعم المادي الكبير إلا أن الأمر يستحق أن تتسع دائرة الدعم وتتعدد الجهات الممولة، إذ ينطوي على إعادة تصويبٍ لتاريخ هذه الأرض، وحماية لإرث فكري يجب أن يحفظ للأجيال القادمة، بينما لا أحد يمكنه أن يحكي حكايانا ويروي قصصنا كما سنرويها نحن.
بشرى الحكيم