ثقافةصحيفة البعث

الفكر والترجمة والإعلام.. والارتقاء بالثقافة

 

 

في اليوم الثاني لندوة “الآداب والفنون… والارتقاء بالثقافة” وبمحور “الفكر والثقافة” أدار جلسته الأولى د.محمد قاسم. وعن مقاربة دور الفكر في عملية التغيير تحدث د.عاطف البطرس:
دراسة الواقع في حركته على أسس منهجية تبين العلاقات بين البنى التحتية وانعكاساتها على الفكر الذي سيقوم بدوره بتحديد عملية التغيير ووضع مساراتها على هدى استراتيجيات محددة المعالم ومدروسة بدقة وفق فلسفة المادية الجدلية. كما أن الفكر العربي ونميز هنا بين فكر ثبوتي ماضوي وفكر ديناميكي حركي متطور يستند إلى معطيات العلم ويعتمد العقلانية ويبتعد عن أحادية التحليل منطلقاً من تشابهات الواقع. وما نحتاج إليه اليوم هو تغيير في أدوات التفكير وأنماطه بالانفتاح على أحدث النظريات المعرفية دون الذوبان فيها وفقدان الماهية وكذلك الابتعاد عن الانزلاق وعدم الإحساس بالتفوق المستند إلى إنجازات الماضي وتجاوز عقدة الدونية أمام المنجز الغربي، فالفكر الذي لا ينطلق من الشك المنهجي ومبدأ النقد المستدام لا يمكن أن يخدم ما نصبو إليه في عالم شديد التبدل والتشابك فكل مرحلة تاريخية لها أجوبتها الخاصة على أسئلة الحياة والمصير، ولا بد لأي حركة تغيير من حراك فكري شامل كلي يستوعب علاقة الكل بأجزائه لا يعمم ولا يقصى يضع الظواهر في إطارها التاريخي.

في مديح الكتابة
وحول الكتابة الفعل الإنساني الأرقى في حياة الكائن البشري، وفي مديحها قال د.ثائر زين الدين: قُدِر لهذا الكائن “الكتابة” أن يحفظ ما كتبه منذ بدء اكتشافه لهذا الفعل المذهل في كتب تطورت من ألواح الطين والرقم والمسلات والأحجار كحجر الرشيد مثلا مروراً بالكتب التي وجدناها على لفافات أوراق البردى وجلد الغزال وما إلى ذلك وصولاً إلى الكتاب الورقي فالكتاب الالكتروني والناطق، والإنسان خلق عبر الكتابة ذاكرة للنوع البشري لا تموت، والذاكرة كما يرى الروائي والفيلسوف الإيطالي إمبرتو إيكو هي روح الإنسان، فالناس عندما تقول: “أنا، فإنما تعني ذاكرتنا”، والمكتبات هي الذاكرة المشتركة للجنس البشري وربما لهذا كله وصف دانتي الله في الفردوس بأنه مجلد واحد حيث يكمن كل شيء مبعثر في الكون “الله ووفق وصف دانتي” مكتبة كل المكتبات.
المؤلم أن العلاقة ما بين الكتاب والإنسان ازدادت تأزماً، وتختصر أشكال تلك الأزمة بقلة عدد الكتب التي تطبع في الدول العربية بصورة واضحة، وضعف حركة الترجمة وطباعة الكتب المترجمة، بالإضافة إلى سوء توزيع الكتاب وضعفه بالرغم من كثرة معارض الكتاب، ويضيف زين الدين: من لا يقرأ يعش حياة واحدة، حتى ولو تجاوز السبعين عاماً، أما من يقرأ فسوف يعيش خمسة آلاف عام. القراءة أبدية أزلية، وكما قال العقاد “وكم من كتب غيرت حيوات الناس وطورتها وهذبتها”.

جسر للتواصل
للترجمة مكانتها وفضلها في حقول العلم والمعرفة والثقافة، وعن الترجمة كجسر للتواصل قال الأديب مالك صقور: للتجارة بين البلدان دور كبير في الترجمة والاختلاط بين الشعوب قديماً على سبيل المثال “طريق الحرير”، بالإضافة إلى الرحلات التي أنتجت بدورها أدب الرحلات، وصلات الجوار بين البلدان: الإغريق، وأوروبا، القدس، العرب، والبعثات التبشيرية والدبلوماسية والبعثات العلمية والدراسات الجامعية، والاستشراق والترجمة من الشرق إلى الغرب وبالعكس، ومن أهم المدارس التي عنيت بالترجمة على سبيل المثال مدرسة حنين بن اسحاق مع ذكر التطور الهائل لوسائل الترجمة في العصر الحديث نتيجة تطور التقانات العلمية.
تاريخ ناطق
وتحت عنوان “الآثار تاريخ ناطق” قال الباحث نظير عوض: ساعد تطور علم الآثار وما يرتبط به من أدوات بحثية ومناهج علمية وعلوم مساعدة على دراسة المخلفات الأثرية وكتابة تاريخ الإنسان القديم في المنطقة، ودوره الريادي بصفته صاحب الابتكارات الأولى في مجالات الاستقرار والبناء والزراعة والتدجين وتصنيع الفخار والفن والدين والكتابة هذه الابتكارات التي وضعت الأساس المادي لحضارتنا الحديثة.

الإعلام والثقافة
وركز المحور الأخير من الندوة التي أدارها د.عاطف بطرس على الإعلام والثقافة، وبدأ الحديث د.عبد اللطيف عمران المدير العام لدار البعث عن “الإعلام كمرآة للواقع” إذ رأى أن صلة الإعلام بالثقافة مسألة إشكالية لأن وظيفة الإعلام في عالم اليوم تجاوزت كل التعريفات من خلال اعتبار الإعلام علما أو معرفة أو اتفاقا أو ثقافة، وما يهمنا اليوم من الإعلام هو الجانب الاستراتيجي أي الوظيفة والمضمون والهدف، ولو كان ذلك على حساب الجانب المعرفي المستقل، وسبب هذا أننا في منطقة من العالم نواجه تحديا كبيرا هو تحدي الوجود، مما يتطلب منا البحث في استراتيجيات الوظيفة دون إغفال الجوانب النظرية.
ولفت د. عمران إلى أن الواقع الحالي يفرض علينا تطويع كل التعريفات وحرفها نحو انتصاراتنا في هذه المعركة، وأنطلق من أهمية وضرورة التركيز على مجموعة من الطروحات الآتية وأولها أنه ليس لدينا وقت كاف للبحث في النظرية والمدرسية وفي ما هو مستقر تقليدياً من تعريفات، إضافة إلى أن الإعلام مثله مثل غيره من العلوم الاجتماعية والسياسية لا يقبل التعميم، بل يقبل التباين في وجهات النظر والاختلاف في إطلاق الأحكام، فهو ليس منطقا رياضياً، كما أنه لا يوجد في عالم اليوم استقلالية للإعلام ولا الإعلامي فقد أصبح الجميع إعلاميين، وأما الطرح الأخير فيبين واقع اليوم أن الإعلام استراتيجيات أكثر مما هو حرفة ولا غنى عنه في مناحي الحياة كلها، ونلاحظ أن البعد الإعلامي والتسويقي للمنتج السياسي والاقتصادي والعسكري أصبح هو الأهم، وذلك يتصل بغياب مفردات عديدة مستقرة في الخطاب الإعلامي وبروز مفردات أخرى، وأكد د. عمران أننا اليوم أمام نظريتين في الإعلام الأولى تقول أنه مرآة للواقع، والثانية هي نظرية الإعلام التقنية، موضحاً أن الأولى تركز على المضمون وتفترض أن الإعلامي ينقل الواقع كما هو بموضوعية واستقلالية دون دخول الجانب الشخصي، وكثيرون يدعون ذلك دون تطبيقه، وأما الثانية فهي تركز على الأسلوب أو الشكل، وترى أن الحدث ليس هو المهم بل تقنية عرض الحدث وقدرة التقنية على التأثير في تغيير الموقف الشخصي أو استثارة العواطف وتعطيل التحليل المنطقي، ويبدو أن هذه المسألة هي الحاضرة حالياً في الاستراتيجيات الإعلامية، مؤكداً إن الإعلام في الإطار العام ليس مرآة للواقع، وهو من جانب يجمّل ويمجد ويمدح، ومن جانب آخر يشكك ويزيف ويفبرك ويخرب الأسس العلمية، وتنطلق التغييرات في الإعلام كمرآة للواقع من التركيز على ثلاثة أمور هي: تقنية الصورة وتأثيرها الواسع، وما تفرضه مراكز الأبحاث من استراتيجيات على الإعلامي ووسائل الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي التي استرخصت كل تعريف مستقر، وحالياً الإعلام ليس مرآة للواقع بقدر ما هو حاكم يسعى للطغيان والاستلاب والابتزاز.
الصحافة المكتوبة
وأشار الإعلامي علي قاسم رئيس تحرير صحيفة الثورة في حديثه عن “الصحافة كمواكبة وتحليل” إلى أن التطورات العاصفة فرضت بشكل قسري وأحادي الجانب شروطها على الإعلام، وأصبح من الضروري أن يأخذ الإعلام جملة من الاحتياطات لمواجهة هذه التحديات، فاليوم الإعلام المكتوب أمام تحد خطير هو التقنية والتكنولوجية التي فرضت عليه التراجع، لكن الواقع يتحدث عن دور جديد لهذا الإعلام، ولعل التغير الأهم أن الصحافة أصبحت صحافة رأي، وحاول الإعلام تحصين نفسه والمحافظة على وجوده من خلال الاتكاء على تقنيات الإعلام الحديث ونشر تقنية الفيديو على موقعه الالكتروني، مضيفاً أن الجذر الأساسي للصحافة هو التحليل ومواكبة الأحداث ولكن المتغير الذي فرض نفسه أنه لم يقتصر دوره على تغطية الحدث بل أصبح يساهم في صناعته، والتحول إلى مهمة التوثيق، وتداخل الوسائل الإعلامية والتماهي بين الأنواع الصحفية وابتكار أدوات جديدة، فالصحافة المكتوبة لاتزال تحتفظ بحيويتها وقراءها ولاتزال العماد الأساسي للسياسة لقدرتها على مخاطبة الرأي العام وتشكيل القناعات والقيم والأفكار.

وجهان لهدف واحد
وحول “الإعلام والثقافة وجهان لهدف واحد” تحدث الإعلامي محمد البيرق رئيس تحرير صحيفة تشرين قائلاً: بقراءة مشهدية للواقع الثقافي وخاصة بعد الحرب يجب أن نتسائل هل حقق ازدهاراً لنعمل على تحويله إلى ارتقاء وكمال، فهو يحتاج إلى جهد كبير وعمل وإلى وقفة حقيقية واتفاق غير معلن مابين الدولة والمواطن، وأن نتشارك بالعمل على الجانب الفكري مروراً بالعملي وصولاً إلى المادي لنحقق الكمال الثقافي لا الارتقاء الشكلي فقط، ثم أشار إلى أن الباحثين أجمعوا على توصيف الثقافة بأنها نمط وسلوك يحاكيان معيشة الجماعة وما الإعلام إلا انعكاس للحالة التي يعيشها المجتمع ووجب عليه أن يقوم بوظائف تلبي حاجات وتوقعات المواطن وأن يحقق جماهيرية تجعل من وسائله منصة لتعزيز الأدوار الثقافية ومواكبة حاجات الأفراد الفكرية والمادية. ونوه البيرق إلى أن الإعلام والثقافة محركان لأي عملية تنمية حضارية، مع الاهتمام بالدور التبادلي والتكاملي للإعلام والثقافة وتحقيق النتائج المطلوبة كونهما وجهان لهدف واحد وهو الناس، والقضاء على التخلف يتوقف على دور الإعلام والثقافة، مشدداً على أن المطلوب هو إعطاء المنصة الإعلامية حقها وتقديم الدعم والسهولة في التراخيص وتمكين المواطن من المشاركة الفعالة في البناء مع ضرورة تحقيق الأمن الثقافي بحماية المكتسبات الثقافية.
لوردا فوزي- جمان بركات