“عندما” نطفة عجوز نكد!؟
د. نهلة عيسى نعيش دائمي التوجس من المرض والموت, وبنفس الوقت دائمي النسيان “في ظل هواجسنا” أن نعيش! ونستهلك أيامنا القصيرة في الدنيا, في الحديث عن “عندما”؟ لأن المهم لدينا أن”عندما” ليس حاضراً, مما يتيح لنا الفرصة للتهرب من المسؤولية, والشكوى, والتذمر, والتبرم, والتحسر من أنه رغم أننا “كذا وكذا” (وطبعاً “كذا” كلها صفات ملائكية, طهرانية, لا يمكن أن تكون بشرية), إلا أننا “يا حسرة” غير محظوظين, وكل غد في عمرنا, هو طفل أنبوب, من نطفة عجوز نكد!؟. ولذلك, عندما يتورط بالحماقة أحدنا, ويقول للآخرين: كفوا عن التهام الذات, ومن ثم تقيُّئها, ليس هناك مايدعى “عندما”, ثمة اليوم وحسب, فاقبلوا به, وعيشوه, وطوعوه, ليكون يومكم, فالعمر أقصر من أن يهدر في التجوال في أحرف التسويف والعلة, ينتفض الآخرون في وجهه كالضباع, ليدافعوا عن بؤسهم, وعن وساوسهم, وعن تراكب الأزمنة في نعيهم اليومي للحظ العاثر, قصير النظر, الذي لا يفرق بين الأصيل, والذليل, وبين “القرعة” و”أم الشعر”!؟ والمشكلة أن هذه الطريقة في العيش, ليست مقتصرة على شؤوننا الخاصة, بل هي أيضاً أسلوب لممارسات مهنية, ولسياسيات عامة, تؤجل التحليق نحو الغد كل يوم, مخافة أن تحرق الشمس أجنحة المحلقين! ليلتهم طوفان الاعتياد, والركون إلى الثابت الفاسد, كل الأشياء, اليوم والغد, الغث والسمين, والقبيح والجميل, والصالح والطالح, وحتى الأجنحة المعدة للطيران, لأن من يعارضون التحليق ينسون, أنه حتى الذين ركبوا سفينة نوح, وأسميناهم “ناجين” لم ينتظروا “عندما”!؟
إلا أن أوجع مافي حماة “الساعة الرملية”, أصحاب المواعظ, والشعر, والخطب العقلانية, ليس تأجيلهم للغد, بزعم أنه ربما يكون “شيكاً” بلا رصيد, أو وديعة في بنك “بركان”, بل في منعهم لليوم أن يكون, رغم أن اليوم” نقود كاش”, إلا أنه “كاش” لا يناسب استثماراتهم في إبقاء البلاد، والعباد, على ما هم عليه, لأن في ذلك كل الربح لهم, ولذريتهم من بعدهم, وليذهب الوطن بمن فيه إلى الجحيم, لأن الجحيم – أيضاً- مصلحة, و”سبوبة” كبرى لهم, ولذلك فإن تحالُف الإرهابيين والفاسدين مد في عمر الحرب, مرت علينا منها حتى الآن ثمان, والله أعلم, كم ستمر علينا مثلها من السنين, خاصة وأن مصالحهم لا قعر لها, والغريب أيضاً أنه لا رأس لها نشنقها, لأنها أشبه بأم أربع وأربعين, كلما فقدت قدماً, ركبت طرفاً صناعياً, أكثر عدواً وجرياً, من القدم المفقودة!. وهذا أمر, ربما يجعل طوافنا حول “عندما” ربما مبرراً, على أمل أن يقودنا الطواف إلى يوم يكون فيه هؤلاء أول قرابيننا على مذبح الغد, وأول ما نشعل فيه النار لنضيء الظلمة, ولنعبر النفق, وأول سلم نمتطيه لمفارقة مدارات ” القن” حيث يتوهم “الديكة”, أن الدجاجات “أو من يظنونهم دجاجات” لا هم لهم سوى التغني بسحرهم ووسامتهم, وأول مراسيم البراءة من زمن التكاذب بالتراضي, وأول مطلع مراسيم تطهر الوطن من هؤلاء!؟
أقول ربما وأكرهها, لأننا في عراء العراء, وأينما تلفتنا عظام الشهداء, طوفان من الحزن, وقليل من الرجاء, وفي المرايا ماء وجهنا كل يوم يراق, وخلفنا وأمامنا تصطك أبواب المصائد, وأصوات من قتلونا, وقاتلونا, ومن يدعون القتال عنا ومعنا, تتعالى وتتبارى بالهتاف, والأيدي تدق المناضد, ومجلس الأمن يوالي, وأقدامنا باتجاه المقابر دائمة التوالي, أليس سقيماً بعد كل ذلك أننا ما زلنا حول “عندما” نتمطى ونتلطى!؟
ضاق الخيار, وشعرة “معاوية” انقطعت ألف مرة ومرة, وقصصنا شعرنا, ووصلناه ألف مرة ومرة, وكل مرة, لا شيء بعد الوصل سوى القهوة المرة, ليس لدينا ما نخسره بعد الآن إلا الرحلة من نشرة لنشرة, ومن بؤس لبؤس, ومن عار لعار, والغائبون على الجبهات منذ سبع سنوات لا يرجعون, ولا يخلعون عن مناكب الأمهات معاطف الوحشة, وجدراننا كلها نعوات, حتى الإعلانات في بلادنا باتت نعوات, لعطور, وأزياء, وحفلات, نمر أمامها مرتدين ياقات العزاء, وعلى الأعين خيوط العنكبوت, أليس غريباً بعد ذلك كله أننا ما زلنا نلفظ “عندما”, والبنادق مشرعة, والعمر نطفة عجوز نكد, مات من كثرة تعاطي “عندما”!؟