“المفتش السري جدا” خلق الممثل أولاً..والنص ثانياً
مضى أكثر من قرن زمني على ظهور نص مسرحية “المفتش العام” للكاتب الروسي الشهير نيقولاي غوغول على خشبة المسرح أيام روسيا القيصرية، ومايزال هذا النص المتوالد باستمرار، يغري الكثير من المسرحيين في العالم وخاصة تلك البلدان الغارقة بالفساد الإداري، لما يحمله هذا النص من مضامين تصلح لأي مكان ولكل زمان، وهي مضامين تعري إشكالية الفساد والسلطة تلك الجدلية التي تعتبر مادة خصبة للاشتغال على الكوميديا الجماهيرية اللاذعة بتهكمها من واقع يحتل حيزا كبيرا من اهتمام سواد الناس الأعظم.
وفي اشتغاله على هذا النص حاول المخرج المسرحي سامر أبو ليلى المكرم في مهرجان حمص المسرحي الثالث والعشرين، ترك بصمته عليه في العرض الافتتاحي مع فرقة المسرح العمالي، فقدم نص غوغول بإسقاطاته المحلية تحت عنوان “المفتش السري جدا”مع مجموعة من الممثلين الهواة الموهوبين الذين احتاج التعامل معهم إلى مجهود مضاعف للخروج بعرض يلقى كل هذا التفاعل الجماهيري الذي حظي به في حفل الافتتاح حيث كان مدرج دار الثقافة يغص بعشاق المسرح خصوصا والفن عموما هذا الجمهور الذي يشكل مفاجأة لكل زائر مهتم بالثقافة، وهذا ما صرح به الفنان زهير رمضان نقيب الفنانين خلال حضوره للعرض.
يتناول نص “المفتش العام” حكاية بلدة صغيرة في الريف الروسي تصل إلى عمدتها أنباء سرية حول قدوم مفتشاً عاماً- متنكراً- من سانت بطرسبرغ، للقيام بحملة تفتيش إدارية، ولأن إدارة البلدات كانت فاسدة، يشعر العمدة وأعوانه وبقية الموظفين أن ثمة مصيبة آتية، ولا بد من التحرك سريعاً، تحسباً للأمر. وهكذا تخبّأ الملفات، وتنحّى الوثائق، وتضبط العلاقات الاجتماعية، انتظارا لوصول المفتش وتحسبا لكل ما هو متوقع أو غير متوقع، ويصدف أن يصل إلى البلدة،في موعد وصول المفتش العام، موظف حكومي شاب غامض، يستأجر غرفة في فندق البلدة يدعى خليستاكوف. وهو في حقيقته شاب أرعن انفق أمواله على القمار والنساء والثياب الفاخرة، ويريد أن يختبئ لبعض الوقت ريثما تمضي الأزمة التي حلت به. غير أن أهل البلدة لتوجّسهم وخوفهم، يحسبون الشاب المفتش العام المنتظر، فيسرعون إليه متقرّبين منه، واضعين في تصرفه إمكاناتهم وأملاكهم ونساءهم، وهم يحسبون أنهم بذلك يكسبون وده ويجتنبون شره. وسرعان ما يدرك الشاب حقيقة سوء الفهم الذي وقع أهل البلدة ضحية له. ويجد في الأمر فرصة ذهبية لتحقيق مكاسب وامتيازات ما كانت لتخطر له في بال. وهكذا يقبل الدعوة للانتقال إلى بيت العمدة، ويقبل كل الهبات والرشاوى التي تقدم إليه. ويمضي اكثر من ذلك في الاستفادة من هذه الوضعية، ويبدأ بمغازلة زوجة العمدة اللعوب، في الوقت الذي يتقدم إلى خطبة ابنة العمدة الحسناء. ولعل «أجمل» ما في هذا كله هو أن خليستاكوف بعدما يقبل هبات الرسميين أبناء السلطة من الذين يخيّل إليهم أنهم برشوتهم إياه يكسبون وده ويجتنبون غضبه. وبعد مضي أيام قليلة، يجد الشاب نفسه وقد جمع ثروة لا بأس بها، وحقق أموراً لم تكن متوقعة. وهنا يخشى عواقب انكشاف أمره، وبعد أن يحدد الغد موعداً لعرسه مع ابنة العمدة، يستأجر عربة ويغادر بها، واعداً بأن يحضر في اليوم التالي لكي يطلب يد عروسه رسمياً ويتزوجها. وبعد غيابه يحدث لرجل البريد في البلدة أن يفتح رسالة كان خليستاكوف كتبها، واصفاً فيها بالتفصيل مغامرته تلك، «في البلدة الساذجة الفاسدة السخيفة». وبعد ذلك، يجتمع أهل البلدة وأعيانها في لقاء ما قبل العرس، يقوم رجل البريد بفضح ما في الرسالة، وبالتالي حقيقة الشاب المحتال. وهنا يصاب الحاضرون بالذهول، ويبدؤون بتراشق الاتهامات والشتائم في ما بينهم. وفيما هم، وسط ذلك كله، يدخل دركي ليعلن أمام الجميع وصول المفتش العام الحقيقي طالباً من الحاضرين المثول في حضرته. وهنا يجعل غوغول كل الشخصيات الحاضرة تجمد جموداً تاماً كما في لقطة ثابتة، من دون أية كلمة ومن دون أي حراك، فيما تهبط الستارة.
هذه التفاصيل يأخذ أبو ليلى جوهرها ليجعل منها نصا مسرحيا بلا زمان أو مكان وحتى بلا أسماء مع الاحتفاظ بالألقاب الإدارية والاجتماعية للشخصيات للخروج من عصر النص الأصلي والتعاطي مع واقعنا الراهن لكي يكسب العرض المسرحي شرعية جماهيرية باللعب على حيثيات آنية يجد في جرأة تناولها خطوة مهمة للخروج من عبثية الكوميديا المسرحية والانتقال إلى حالة الهجائية الهادفة، لكنه هل وصل إلى مبتغاه مع ممثلين هواة بعضهم كانت تجربته الأولى في الوقوف على خشبة المسرح وأمام هذا الحشد الكبير؟.
ربما وفق المخرج في عصرنة النص وتحويره ليماهي الواقع محليا، ونجح في تكوين الشخصيات “بكـركتراتها” الكوميدية، لاسيما شخصية مرافق المفتش المزيف التي بدت أكثر نضجا واقناعا، دون الانشغال بسينوغرافيا مبهرة، لكن حرصه الشديد على صناعة ممثل واثبات مقدرة الأداء لديه، جعل النص يذوب ويضمحل ضمن مواقف كوميدية بدت في بعضها تهريجا لاطائل منه، وبات الممثل يعصر كل مواهبة لاستجداء الكوميديا والضحكة من المتفرج على حساب الموقف والرسالة المنشودة من النص، فقد كان واضحا سطحية وشكلية بعض الممثلين في الاندماج بالموضوع وتقمص الشخصية، وإبراز الطاقة المعنوية القادرة على اقناع المتلقي وكسر الايهام، ومع أن هذا الطلب من ممثلين غير محترفين قد تكون محاكمة غير عادلة،إلا أننا دائما ننشد الأفضل والارتقاء بالحركة المسرحية على كل المستويات، دون أن ننكر أن التفاعل الجماهيري مع العرض كان في أعلى مستوياته وان الممثلين بذلوا مجهودا كبيرا في التعامل مع نص نجح المخرج في اختياره لأن معايشة أفكاره والذوبان فيها لاتحتاج “لسوبر” ممثل، فهو نص شعبي يخلو من التنظير الأكاديمي والفذلكة المسرحية ولايحتاج لعناء كبير في فهم رسالته.وتقمص شخصياته. وقد كان لجرأة طروحاته في عصر ديكتاتوري دور في جماهيريته وشهرته ووصوله إلى خشبات مسارح العالم.
وهناك مسألة الانتقال بين مشهد وآخر، نجد أن المخرج تعاطى مع المتلقي بنوع من الاستخفاف في مقدرته على المحاكمة والفهم عندما جعل خادم الحاكم يحمل عبارة كتب عليها مكان كل مشهد من المشاهد التي تنقلت بين مكتب الحاكم ومنزله والفندق والحمام وغيرها، ففي هذه الحال تستخدم المفردات والعناصر المسرحية الحسية الدالة على المكان بدلا من أن نقول له إن المشهد الآن يدور في المكتب، أو القصر.. ولايبرر شح الإمكانيات المادية التي توفر الإكسسوارات المتممة للعرض اللجوء الى التلقين المدرسي.
“المفتش السري جدا” تمثيل: يعرب حوراني، رمضان عيسى، سلام خضر، إليسا ابراهيم، روان شدود، سليمان الوقاف، أحمد الدرويش، كرم الصيني، سيزار سلوم، فاخر أبو زهر، يارا رضوان، محمود شرف الدين، مساعد مخرج ليلى ابراهيم، وديكور حيدر ابراهيم، الموسيقى ميلاد عباس، الماكياج سحاب ابراهيم، ادارة منصة الياس ديوب، إضاءة بسام ابراهيم، الملابس نجاح حنا.
آصف ابراهيم