دراساتصحيفة البعث

فلسطين والسلوك الرسمي العربي

د. سليم بركات

لفهم السلوك الرسمي العربي إزاء القضية الفلسطينية يجب ألا يغيب عن البال الدعم الامبريالي الاستعماري للمشروع الصهيوني منذ ولادته وحتى يومنا هذا، ودليل ذلك أن المراكز الامبريالية الاستعمارية التي ابتدعت هذا المشروع منذ وعد بلفور عام 1917، هي نفسها التي قولبت معظم الأنظمة الرسمية العربية القائمة، ومن دون الدخول في التفاصيل نجد أن الأمر لا يتوقف عند حدود وعد بلفور، بل نجده من خلال اتفاق سايكس بيكو في عام 1916 بتقسيم الوطن العربي إلى دويلات ترافقت مع هذا الوعد، وهذا يثبت بالدليل القاطع أن الدول العربية القائمة حالياً ليست من صنع شعبها، وإنما أتت متقولبة ومتواكبة مع ولادة المشروع الصهيوني ومستجداته العالمية منذ الحرب العالمية الأولى، وحتى قيام ما يسمى بإسرائيل عام 1948، عبر مؤتمر باريس للسلام عام 1919، والحرب العالمية الثانية، ومن خلال تشكّل عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة، زد على ذلك ما سببه الكيان الصهيوني من حروب ونكبات على مستوى المنطقة والعالم، والتي تشير إلى أن الوطن العربي قد أصبح على أبواب مرحلة جديدة، قد يكون من شأنها إعادة صياغات لكيانات سياسية عربية قائمة على أسس طائفية متلازمة مع الكيان الصهيوني واستمراره، كل ذلك يؤكد أن المراكز الامبريالية كانت تعي سابقاً ولاحقاً أن مشاريعها ستصدم بالمصالح الحيوية للأمة العربية، ولذلك كان لابد لها من أن تبرمج عملها وتضع خططها وتبني أدواتها بما يتوافق والمحافظة على مصالحها لإحباط نضال حركة القومية العربية المعبّرة عن أهداف ومصالح جماهير الأمة العربية في الاستقلال والوحدة والتقدم الاجتماعي.

من هذا المنطلق رعت المراكز الامبريالية الاستعمارية، وكل منها في حينه، المشروع الصهيوني بعناية فائقة ليشكّل القاعدة المتقدمة في التصدي لنضال الحركة القومية العربية وإحباطها، ولولا هذه الرعاية لما قام المشروع الصهيوني، بل لما تبلور كفكرة أصلاً، لأن اعتماد القوة اليهودية الذاتية كقوة كافية مسيرة للمشروع الصهيوني لا يكفي للقيام بمثل هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني، وبغض النظر عن رغبات المراكز الامبريالية الاستعمارية، ودور النخب اليهودية المنخرطة في مؤسساتها لبلورة الفكرة الصهيونية وترويجها، فإن المشروع الصهيوني لن يكتب له النجاح لولا أن تهيأت أوضاع التجمعات اليهودية لتقبّل هذه الفكرة الصهيونية والانخراط فيها عبر الهجرة والاستيطان على أساس القاعدة المطروحة صهيونياً، وهذا يعني أننا لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن المنعطف الكبير في العمل الصهيوني قد جاء تتويجاً لمسار متدرج، ومتصاعد، بالتواتر مع ازدياد اهتمام الغرب الامبريالي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية، بالمنطقة العربية طمعاً في مواقعها وثرواتها.

في المقابل، وعلى سبيل المثال لا الحصر، كان سلوك الحركة العربية العسكري والسياسي وحتى الشعاراتي مثالاً صارخاً للفشل في مواجهة المشروع الصهيوني، والدليل أن كلا المعسكرين المتحالفين المتحاربين في الحربين العالميتين الأولى والثانية قد جلبا معهما الأقطار العربية الواقعة تحت تأثيرهما إلى الحرب، تحت شعار منحها الاستقلال الذي يأمله الشعب العربي، ومع أن الوعود الاستعمارية في تحقيق هذا الاستقلال كانت كاذبة، إلا أن الدخول العربي في هاتين الحربين كان شكلاً ومضموناً إلى جانب الحلفاء، ومع أن الدور العربي كان فعالاً من خلال الحرب، بقي هؤلاء الحلفاء يروغون بالعرب لحرمانهم من الاستقلال الذي وعدوا به، ولزيادة الطين بلّة، واستهتاراً بالوجود العربي، بادر حاييم وايزمن أول رئيس لما يسمى بإسرائيل، يرافقه الجنرال هنري غورو، وتوماس ادوارد الملقب بلورنس العرب، إلى زيارة الملك فيصل ملك العرب لاحقاً في العقبة في أيار عام 1918 ليطمئن فيصل من المشروع الصهيوني في فلسطين، وبالتالي لم يعترض فيصل على هذا المشروع وقيامه في قلب الوطن العربي فلسطين.

إن ما جرى عشية الحرب العالمية الأولى ومن خلالها، وما تلاها من نتائج، يمثّل عينة معبّرة عن السلوك العربي الممارس في مواجهة التحالف الامبريالي الصهيوني، بعد أن تكررت المسرحية في الحرب العالمية الثانية، وهي تعيد إنتاج نفسها اليوم على شكل مهزلة، الأمر الذي يؤكد دور النخب العربية السياسية والثقافية الحالية في استخلاص العبر من التجارب التاريخية الفاشلة التي منيت بها الأمة العربية في مواجهة أعدائها، إذ من واجب هذه النخب أن تصوغ ثقافة جماهيرية معاصرة حول طبيعة الصراع العربي الصهيوني، وأن تتولى قيادته بالشكل الأصح، وفي هذا الإطار لا نجانب الحقيقة إذا قلنا إن النظام الرسمي العربي مازال مقصراً في هذا المجال، وإن الكثير من الأنظمة العربية الراهنة  مازالت تفتقد معظم مقومات التكامل الجدّي لمعالجة أزمة الأمة العربية الراهنة، وصولاً إلى الحسم مع المشروع الصهيوني، وللخروج مما هي فيه.

إن بناء الإرادة الجماعية العربية في حالة معطلة، تستوجب وقبل كل شيء وعي أسباب الأزمات، وعلى رأسها الأزمة الحالية للخروج منها، ومن آثارها السلبية على الجماهير العربية، ومن المؤكد أن عمق الوعي بهذه الأسباب يقوي من صلابة الإرادة العربية في خوض الصراع، وتحمّل تبعاته على عكس الجهل بهذه الأسباب الذي يؤدي إلى هشاشة هذه الإرادة، وإلى تقاعس أصحابها عن الانخراط في النضال للخروج من الأزمة، إذ دون هكذا وعي ستبقى حالة الانقسام والتشظي على صعيد الوطن العربي قائمة، وتعيق تشكّل الإرادة العربية الموحدة، وهل نجانب الحقيقة إذا اعترفنا بوجود علاقة جدلية بين الوعي لقضايا الصراع العربي الصهيوني، وبين صلابة الإرادة لخوضه، وبالتالي استقامة إدارته في حركيته حتى لا يكون الشرخ بين الذات والموضوع، وحتى لا تكون المشكلة في واد، والجهد المبذول في واد آخر.

الفعل الذاتي للصمود

من هذا المنطلق لابد للجماهير العربية من إنتاج الفعل الذاتي للصمود في مواجهة المشروع الصهيوني، وهذا لا يكون إلا بتبني مشروع التحرير لكامل التراب العربي الفلسطيني، كما لا يكون إلا من خلال وضع قيادات العمل العربي المشترك الاصبع على الأسباب الحقيقية لأزمة أنظمتها، ومعرفة هذه الأسباب، وسبل الخروج منها ومن مضاعفاتها، بعد أن أخفق النظام الرسمي العربي، حرباً وسلماً، في إدارة الصراع العربي الصهيوني إلى حد أدى إلى اختلال أوجه ونشاط أي مشروع للتحرير على الصعد كافة، ولا نبالغ إذا قلنا إنه ليس صدفة إن خسرت الأمة العربية الكثير من معاركها العسكرية والسياسية في مواجهة المشروع الصهيوني الذي تواكبت محطات إنشائه مع منعطفات مصيرية في تاريخ المنطقة الحديث، إذ منذ بروزه وحتى يومنا هذا، مروراً بوعد بلفور، ومن ثم قرار التقسيم للدول العربية، وقيام “إسرائيل”، وما ترتب على ذلك حتى يومنا هذا، ظل المشروع الصهيوني موضوعاً على رأس جدول أعمال النظام العالمي ومؤسساته الدولية، بينما بقي المشروع العربي في مواجهة المشروع الصهيوني مستهدفاً من قبل هذا النظام ومؤسساته لتصبح مناقشته تحت فقرة ما يستجد من أمور، وما إعلان الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة ترامب عن رغبتها في تسوية الصراع العربي الصهيوني سوى الدليل على ذلك، حيث التعزيز الأمريكي للدور الإسرائيلي الوظيفي، وتجسيده على مستوى المنطقة على حساب الحقوق العربية الفلسطينية.

من هذا المنطلق، ومن خلال الاستهدافات التي مازالت تطال الأمة العربية بأسرها، لابد من الاستخلاص بأن المعركة مع الكيان الصهيوني هي معركة قومية في كل ما تحمل الكلمة من معنى، الأمر الذي يرتب على القوى الوطنية القومية الحية على صعيد الوطن العربي لعب دورها التاريخي لإنجاز مهامها في المواجهة، ونظراً للواقع الذي تشكّل بانحياز بعض الحكام العرب إلى معسكر الأعداء، لابد من فرز حقيقي على قاعدة الصراع المحتدم بين المشروعين العربي والصهيوني، الأمر الذي يؤدي إلى تحشيد الجهد القومي العربي لخوض المعركة بنجاح، وهذا لا يستقيم إلا على قاعدة الاصطفاف داخل خندق المقاومة البعيد كل البعد عن سلوك التبعية والانتهازية.

إن المعاناة العربية الراهنة على صعيد الوطن العربي متشكّلة إلى حد كبير على نتائج الفعل الخارجي المعادي للأمة العربية، وبالتالي فهي لن تجد سبيلها  إلى الحل إلا بنهوض الأمة العربية من كبوتها بامتلاك ثقافة المقاومة المعززة بفهم عقلاني لطبيعة الصراع المحتدم في المنطقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى على القوى الوطنية القومية صياغة ثقافة علمية حول وحدة الأمة العربية، بدءاً بالوحدة العسكرية، ووصولاً إلى الوحدة السياسية، وهذا لا يكون في غياب الديمقراطية التي تضع الإنسان العربي في سلم أولوياتها، وهي لكي تكون قومية حقيقية لابد لها من إعادة الاعتبار لبرامج تحرير فلسطين، ودحض مقولات التسوية التي ثبت بطلانها مع العدو الصهيوني، فالتحرير بطبيعته يستوجب حشد الطاقات، وتخطيط العمل وبرمجته، وبالتالي تخليصه من الارتجال والعفوية والتبعية.

بقي أن نقول إن القرار الذي اتخذه ترامب بنقل السفارة الأمريكية للقدس المحتلة لم يكن قراراً مفاجئاً أو غير متوقع، ولما كان كذلك فإن ما يحزّ في النفس هو أن هذا القرار قد تحدى كل المشاعر العربية، وفي طليعتها المشاعر الدينية المسيحية والإسلامية، ولاسيما بعد الاعتراف الأمريكي بأن هذا القرار قد جاء ليصحح خطأ تاريخياً بإعلان القدس عاصمة أبدية لـ “إسرائيل” حسب زعمه، وهو قرار لم يواجه بالرد المناسب على الصعيد الرسمي العربي، ولو حصل مثل هذا الرد المدعم جماهيرياً  لما تجرأ ترامب على اتخاذ مثل هذا القرار، لكنه يدرك أن مثل هذا الرد لن يأتي أبداً، والدليل ما حصل عليه من منافع لم يكن يحلم بها، إنه يدرك عجز البعض من الأنظمة العربية في مواجهة التحدي، ولذلك لم يعد يبالي بمشاعر الأمة العربية لا من قريب ولا من بعيد، الأمر الذي يطرح السؤال الأهم وهو: إلى متى الصبر على الحكام العرب المتحالفين مع أمريكا علناً، ومع “إسرائيل” سراً بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن الرئيس ترامب قبل أن يتخذ قراره بنقل السفارة إلى القدس قد ضمن موافقة هذا البعض من الحكام العرب على قراره هذا تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية؟!.. ستبقى الإجابة عن هذا السؤال رهن الشعب العربي، وعلى رأسه الشعب العربي الفلسطيني.