دراساتصحيفة البعث

لماذا”السترات الصفراء” حركة غير مسبوقة في تاريخ فرنسا؟

صحيفة لوفيغارو 6/12/2018

ترجمة ليلى الصوَّاف

منذ البداية وُصِفت هذه الحركة الاجتماعية بأنها “غير مسبوقة”. في الوقت نفسه أجرى الكثير من رجال السياسة والفكر مقارنات تاريخية. برفقة المؤرخ ميشيل بيجنيه الأستاذ الفخري في جامعة السوربون، ستقوم جريد الفيغارو بتمييز الصحيح من الخاطئ.

منذ بداية حركة “السترات الصفراء”، وأمام صعوبة توصيف هذه الحركة الاجتماعية تردد السياسيون ورجال الفكر، وحتى المراقبون العاديون، بين التشبيهات التاريخية وبين إعلان الطابع “غير المسبوق” لهذه الحركة التي يدعمها أكثر من 70% من الفرنسيين.

منذ السبت الثاني للتجمعات، تحدث وزير الداخلية عن يوم 6 شباط 1934 وعصابات اليمين المتطرف وسنوات ما بين الحربين. مقارنة أجراها أيضا الفيلسوف برنار هنري ليفي في عدة مناسبات متحدثا عن تجربة تاريخية أخرى، هي تجربة “النقابات الصفراء” في بدايات القرن العشرين. كما تحدث مفكرون آخرون عن الذكرى التاريخية لأيار 68، والبعض الآخر  عن الثورة الفرنسية، وآخرون غيرهم عن الحركة “البولانجية” التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر، أو عن حركة البوجاديين (1) التي ظهرت بين أعوام 1959 – 1960. سنقوم بفرز الصحيح عن الخاطئ مع البروفسور ميشيل بيجنيه الأستاذ الفخري في جامعة السوربون بانثيون ومؤلف الكتاب المرجعي تاريخ الحركات الاجتماعية في فرنسا من عام 1814 إلى أيامنا هذه.

 

1995: حركة دعت إليها النقابات

عندما تتسع حركة اجتماعية في فرنسا، أول ما يخطر بالبال مقارنتها بالإضرابات الكبيرة عام 1995، أكبر إضرابات منذ العام 1968، والتي أجبرت حكومة جوبيه على التراجع عن مشروع إصلاح التقاعد في الوظائف العامة والأنظمة الخاصة.

“الاختلاف الكبير اليوم أنه في عام 1995، كانت النقابات فاعلة جدا في تنظيم هذه الحركة. والقوى التي تتحرك كلاسيكية جدا بما في ذلك تحركها وإضراباتها، في حين أن السترات الصفر تقف على مسافة من الأجسام الوسيطة”، كما يقول بيجنيه، الذي يلاحظ أيضا “عنصر تشابه بسيط” أتى عام 1995 بعد الانتخابات الرئاسية التي أضفى عليها جاك شيراك لونا اشتراكيا جدا، ما لبث أن تراجع عنه فور انتخابه رئيسا. يوجد شيء من هذا في الأمل الذي ما لبث أن أحبِط في بداية خطة عمل ماكرون.

1968: حركة انطلقت من أوساط الشباب

تظهر مرجعية حركة أيار 1968 أيضا بين المقارنات التاريخية. “لا يمكن تعريف 68..”، يقول ميشيل بيجنيه ساخرا، ويؤكد: “انطلقت حركة 68 من أوساط الشباب. في حين أن السترات الصفراء ليست لهم صفات جيلية واضحة جدا. كما أنهم ليسوا رافضين للسلطة مثل أعضاء حركة 68”. “ثم، في البعد الاجتماعي لحركة أيار 68، كانت النقابات تمسك بالحركة. وأثناء عقد اتفاقات غرونِل كان بومبيدو يصغي باهتمام كبير إلى رئيس الاتحاد العام للشغل”.

1953 – 1958: جمعت البوجادية التجار والحرفيين

هل السترات الصفراء أطفال بيير بوجاد الذي قاد، من 1953 إلى 1958، حرب التجار والحرفيين المكلومين من الضرائب؟ هذا ما اقترحه إيمانويل ماكرون عندما تحدث في منتصف تشرين الثاني عن “بوجادية معاصرة”. ربما دفعته بعض العوامل إلى التفكير بهذا، خصوصا اليأس الضريبي للطبقات الوسطى. مع ذلك يرى بيجنيه أن التشبيه خاطئ: “كان بوجاد يضع المستقلين في مواجهة الموظفين، معتبرا أن الحماية الاجتماعية للأخيرين هي سبب الضرائب المرتفعة التي يعاني منها الأولون. في حين أننا نشهد اليوم خلق كتلة اجتماعية موحدة، يتم عبر اجتماع الموظفين والمستقلين”.

يذكر المؤرخ عامل اختلاف آخر آنيا: حتى الآن لم يحول “السترات الصفراء” حركتهم إلى قوة سياسية. “إنهم يحاذرون، حتى الآن، من أن تستولي عليهم أية أحزاب سياسية، في حين انتقل بيير بوجاد من النقابي إلى السياسي بتجذره في يمين اليمين”.

1934: كانت العصابات تستعرض ضد الجمهورية

“لا مجال للمقارنة”، يقول ميشيل بيجنيه عندما نتحدث عن “توازٍ بين “السترات الصفراء” وعصابات اليمين المتطرف والمحاربين القدماء في سنوات 1930. “في 6 شباط 1934، أطلقت قوات حفظ النظام النار على الحشود، وقُتِل بعض المتظاهرين بالرصاص. كانت أماكن السلطة مهددة فعلا، خصوصا أن العصابات كانت تريد إسقاط الجمهورية. لا شيء من هذا اليوم. على العكس، بوسعي القول أن السترات الصفراء يريدون مزيدا من الجمهورية”.

1899: “الشباب” ولكن ليسوا نفسهم

إضافة إلى عصابات سنوات 1930، أتى برنار هنري ليفي بتشبيه آخر، وهو “اتحاد الصفر في فرنسا” هذه المرة، وهي نقابة موظفين تسعى للربط بين الطبقات ظهرت في بدايات القرن العشرين واتسمت بمعاداتها الكبيرة للسامية. “وُلدت النقابات الصفراء عام 1899 في كروزو في منطقة سون ايه لوار. في مواجهة الإضرابات، دعمت عائلة شنايدر  تأسيس نقابة مضادة تناهض صراع الطبقات وتنافس النقابات الحمراء. وتجد لها أتباعا في كل أرجاء البلاد، ليولد بعد ذلك اتحاد الصفر في فرنسا عام 1902، والذي يعرف عن نفسه أنه نقابة فرنسية في مواجهة النقابات الغريبة التي تستلهم الماركسية”، بحسب ميشيل بيجنيه الذي يختم: “باستثناء اللون، لا يوجد أي رابط يجمعها بالسترات الصفراء اليوم”.

1885 – 1889 الحركة البولانجية

مرجعية تاريخية أخرى هي الحركة البولانجية التي تمثل البعد الشعبي للسترات الصفراء. كان الجنرال جورج بولانجيه وزير الحربية بين 1886 – 1887، وكان وطنيا معاديا للألمان. لُقِّب “الجنرال انتقام” وقد نال شعبية سياسية كبيرة حتى عام 1889. يشرح ميشيل بيجنيه سببها: “كان يحظى بدعم متناقض جدا: من اليسار وأقصى اليسار بسبب دعمه لديمقراطية تمنح الشعب مزيدا من السلطة، ومن اليمين الملكي الذي يرى فيه رجل القدر المنقذ، كما كانت شعبيته كبيرة بين الشعب”.

تناقض بين الأفقية والعمودية في السياسة يعتقد بعض المراقبين أنهم لاحظوه لدى “السترات الصفراء”: بعضهم يطالب بمزيد من الديمقراطية المباشرة، والبعض الآخر بمجيء رجل ذي قبضة حديدية”. مثلا، طالب كريستوف شالانسون أن يصبح الجنرال بيير دو فيلييه رئيسا للوزراء، وقد رفض رئيس الأركان السابق المستقيل في تموز 2017 هكذا التزام.

1789: ماذا عن السان كيلوت (2)؟

لم يقتنع ميشيل بيجنيه بالمقارنة بالحركة البولانجية. “بما أن السترات الصفراء لا هيكلية تنظيمية لهم وقد ولدت حركتهم بشكل عفوي، فلن تصلح جميع المقارنات التاريخية. يجب الرجوع إلى أزمنة أقدم كنهاية القرن الثامن عشر أو النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلى أزمنة لم يكن فيها الاستفتاء العام موجودا بعد”، يقول بيجنيه الذي يرى، بالمقابل، تشابها ممكنا مع الثورة الفرنسية.

تمكن تسمية “السترات الصفراء” بالحركة غير المرئية. فجأة تكلمت غالبية صامتة وكتلة اجتماعية ترفض الدخول في النزاعات التقليدية. إنه الشعب المنذهل من كبر عدده وهو يتصدر المشهد السياسي، وهنا يخرج كل شيء حتى المطالب المشوشة بعض الشيء. تحدثونني عن مراجع تاريخية، وأنا أرى فيهم حركة الـسان كيلوت من خلال تطلعهم إلى ديمقراطية مباشرة. مع ذلك فهناك حدود حاسمة لهذه الفكرة. فلدينا أكثر من قرنين من الخبرة التاريخية مرت من هنا”، يلخص بيجنيه. هناك اختلاف كبير آخر هو: كان الباريسيون في طليعة المحتجين أثناء الثورة الفرنسية، في حين أن سكان الأرياف هم مصدر الغضب اليوم. وعليه فالمقارنات التاريخية صعبة حتما.

1 – البوجادية نسبة إلى بيير بوجاد، حركة سياسية نقابية ظهرت عام 1953 طالبت بالدفاع عن حقوق التجار والحرفيين إزاء ظهور المجمعات الضخمة في فرنسا ما بعد الحرب.

2 – السان كيلوت، أو الذين لا يرتدون الكيلوت (اسم البنطال الذي ترتديه الطبقة الأرستقراطية الفرنسية والذي كان رمزا لها)، تسمية أطلقت على المتظاهرين من عامة الشعب في بداية الثورة الفرنسية للاستخفاف بهم كونهم يلبسون بناطيلا مقلمة. (المترجمة)