الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

اشنقوا أسماء الإشارة!؟

 

د. نهلة عيسى

أنا واحدة ممن يكرهون أسماء الإشارة, وإذا ما سألتموني لماذا؟ سأرد بأني أكره أيضاً أن أُسأل لماذا؟ لأني في حالات كثيرة لا أعرف لماذا أحب وأكره, لذلك عندما أكتب يخطر لي مراراً أن أتمدد فوق الجمل, وأن أتمشى على خط الكتابة, فأركل في طريقي همزة, أو أقضم ضمة, ثم أفكر في علك كل الحروف لتختفي من رأسي, فأنعم بالصمت الجميل, فلا أسمع لا هذا, ولا ذاك, ولا من, ولا على, ولا حتى “هلا”!.
أكره أسماء الإشارة, لأنها تلغي اللا في وجه العدم, وتُجهل من نحن ولا تُعرف أحدا بأحد, هي صيغ للتبخيس وليس للتدليل, وقد سئمت أن معظم ما في حياتنا مُجهل, مُبخس, بينما في البال مدن بالبشر تستوطن القلب منذ حبوت, لم تكن ساقاي تحملاني إليها, ولكن أبي حملني إليها, ليرتسم الوطن بناسه على ركبتي خرائط لا تمحى, لا تفارق صحوي, ويزاحم ظلها ظلي, كتفاً بكتف, وقدماً بقدم, كما تتربع كل صباح في عيوني, وجهاً يلاحق البشاشة, وصوتاً ملحاً كصوت أمي.. يرشدني, أفعلي ولا تفعلي, ليجعلني في بعض ما أفعل نسخة من كل ناس الوطن, وصوتاً لمن رحلوا ونسوا في عيشهم أن يقولوا: لا!.
أكره أسماء الإشارة لأنها تقاطع الحقيقة, وتسد أبواب السؤال الراغب في جواب لا يدخل المرء في متاهة الأسئلة, وجدلية أننا كلنا متشابهون, كلنا سواء! ليس صحيحاً هذا الكلام نحن لسنا سواء, ووحدها أسماء الإشارة تجعل أعمارنا هباء, وحكايات بلا أسماء, هذا فعل كذا, وتلك قالت كذا, وذاك مات, رغم أن الموت في وطننا بات أشبه بسيوف زينة تتدلى في استعراض, نبلها مدفون خلف تلال الرماد لا يُرى, لأنه لا يمكن لمن يعانق الردى, أن يَرى؟
تقاطع أسماء الإشارة كتابتي, فأقاطع الكتابة, وأخبرها: أنا متعبة, وقلبي منهك من الدق على أبواب الأسئلة, ويومي تسعل فيه الظلمة والبرد, غادريني, اعطني القدرة حتى أقول, ثم أبتسمُ أني أخاطب الحروف, تراني جننت, أم أن من يعاشر طوفان الكلمات مثلي, تغمره العتمة, فيناجي الرب هداية الطريق, ويظن أحرف العطف السلمة الأولى إليه, وأحرف العلة حاجزاً كي لا يقع, فيقع! آه يا كلمات يا نبية: جائع قلبي من أكل الرياء, جائع حتى البكاء, فأخبريني ماذا يأكل القلب كي لا يموت من العياء!؟
تقاطع أسماء الإشارة ,الحقيقة, هي على الشاشات تسمي شهداءنا بأسمائها, وتشظي الوطن, وتسخف الرعب الذي يفرض العيش في ظل السيف والمسدس, وتجعل المصابيح تخبئ عينيها بأهداب جناحيها عن كل الجرائم التي تقع, فنتمدد على الأرائك مسترخين أن هذا ليس يعنينا, ونظن أن الهاء ستجمع الحطام والشظايا, وننسى أن كتاب من في غار حراء قرأ, صار في عصرنا سندا لمن شظى الوطن, وكأنه بعد محمد لم يقرأ أحد!!
تقاطع أسماء الإشارة الملامح المحددة, والوقائع المبينة, ويحسدني الأصدقاء أنني “يوسف” محبوب “يعقوب”, ويدللون على ذلك بأني محبوبة الكلمات والحروف, وبأنها لي طوعاً, ترحل من أفواه وأقلام الكثيرين, وتبقى في جعبتي رابضة, وليتهم يعرفون أني جاهزة للتبرع لهم بها من الألف وحتى الياء, ما صلب يسوع, ولا سجن يوسف, ولا نفي محمد إلا لأنهم قالوا, وحده نوح نجا من الطوفان, لأنه تجنب الكلام!!
أكره أسماء الإشارة, وأراها مشنقة, وأريد لقلبي أن يبقى بعيداً عن مسرح الغفلة, متسربلاً بالطمأنينة, لا يعرف الظلمة, ولا يخشى الأبواب المغلقة, يصاحب الدروب, ويتصفح الوجوه, كل الوجوه, ويرى في كل وجه اسم علم, يشبه وجه أمي, يشبه وجه الوطن, يشبه تلك المدن التي حملني إليها أبي صغيرة, وكبرت وأنا أعرف حتى في الغربة من أين أتيت وأين سأنتهي, حربنا.. حرب حروف, بدأت باغتيال أسماء العلم ولام التعريف, ولن تنتهي ما لم تعلق على المشانق رؤوس أسماء الإشارة!.