ثقافةصحيفة البعث

الفصول الأربعة

 

يقول جبران خليل جبران: “الحياة عميقة وسامية ونائية غامضة, فصدى أدق همسة يتحول إلى ربيع وخريف في صدرها, عندها تتكلم الحياة, وتتحول البسمات إلى شفاهكم والدموع في عيونكم إلى كلمات..” هذا ما قاله الجد وهو ينظر من النافذة بعينين شبه مطفأتين إلى السهول المغطاة بالثلوج المندوفة التي صنعت أجمل ثوب تزف به الأرض إلى الربيع القادم، وظل صامتاً. سأله أحد أحفاده الجالسين: ما الذي يدور في رأسك؟ أفلا تحدثنا عما يجعلك صامتاً وكأنك تحلم في وضح النهار, رد عليه قائلاً: عندما تكون مصغياً إلى ذاتك العميقة في حلمك المستيقظ, تنثال أفكارك انثيال الثلوج المندوفة, لكن تلك الأحلام المستيقظة ليست سوى غمام يبرعم ويتفتح في شجرة سماء قلبك؟ وأي شيء هي أفكارك سوى الأوراق التي تذروها رياح قلبك على الروابي وحقولها؟ نهض أحدهم قائلاً: اليوم تأخرت في النوم فلا عمل لدي, رد الجد قائلاً: النوم؟ تنام الليل كله ولا تكتفي, الآن جن الليل فانتبهوا إلى الهدوء.. انتبهوا إلى هدأة الليل التي تنسج في الحقيقة ثوب العرس على الأشجار في الغابة والأزهار في الحديقة وتعدّ غرفة العرس إعداداً مغرياً, وفي جو ذلك الصمت القدسي يتكون الغد في رحم الزمن، فلماذا تضيعون هذا الغد في النوم لا في التعرف على ما هو جديد.. عليك أن تحلم بالغد, كما تحلم البنفسجة البيضاء بالربيع, عليكم أن تحلموا بالمستقبل الزاهر، وعاد ينظر إلى الثلوج ويقول: إن هذا الثلج سيذوب عند قدوم الربيع, وكذلك هو شأن الثلج في قلبك فإنه سيذوب عندما يأتي ربيعك, وكذلك سيجري سرك سواقي تنشد نهر حياتك في الوادي وسيلف النهر سرك ويحمله إلى الخضم الكبير، لذلك عليك التجهيز للربيع الخاص بك أي ربيعك.. عليكم أن تخرجوا إلى الدنيا لتروا الروائع فيها, عندما يتراقص المطر أوراقاً متناثرة على الرابية في الغابة والحديقة, وعندما ينهال الثلج بركة ووفاء وعندما تلتقي في حقولكم الغدران وتلتحق بالحلل السندسية في المروج، فقد نسجت لكم الريح أنفاس الحياة شراعاً من نور على محياها، ثم جمعتكم يدها ووهبتكم شكلاً عندما كنتم تتحركون مع البحر الهائج بلا ذات ولا شاطئ.. قاطعه آخر: “أنا وحيد يا جدي وحوافر الزمن تمر على صدري ثقيلة الوطء بطيئة الخطى”. أجابه الجد بغضب: “اشرب كأسك وحدك وإن كان طعمه من دمك ودموعك عليك أن تحمد الله على نعمة الظمأ، فإن قلبك من غير ظمأ ليس إلا شطاً لبحر لا مد له ولا جزر” كما تقول  أمريتا بريتام  في روايتها “وجهان لحواء”.

أتدري يا بني حين كنت في مثل عمرك راودني الشعور نفسه ولكني بعد تفكير وبحث عميق وجدت من هم معي لا يفارقوني, الزمن الذي كنت أعيش فيه والفصول ونفسي والذكريات كلها كانت تؤنسني, كنت أعلّم بعض الشبان وأطلعهم على بعض الأمور فمرة نهض أحدهم قائلاً: إنك حكيم أيها العم, فقلت له: “لا تناديني بوصفي حكيماً فأنا ثمرة فجة لا أزال عالقاً بالغصن حتى الأمس لم أكن سوى برعم يتفتح فنحن أوراق خضر على شجرة الحياة” كما قال جبران!. قال أحد أحفاده: لم وصفك ذاك الفتى بالحكيم؟ قال الجد: لأني وصفت له الفصول, فقد مرت السنة ومر فيها أربعة فصول، وعاد يستشهد بقول جبران: “وما فصول الأعوام سوى أفكارنا التي تتغير وتتبدل؟ الربيع يقظة في صدركم والصيف ما هو إلا اعتراف بأثماركم والخريف ما هو إلا العتيق من غنائكم لترنيمة لا تزال طفلة في كيانكم والشتاء؟ الشتاء ليس سوى رقدة طويلة تفعمها الأحلام بالفصول الأخرى” ففي كل منها أنشودة وحكاية ترويها لنا الذاكرة حين يأمرها الزمن بذلك.

تغريد الشيني