أوروبا ما بين التبعية والشراكة
ريناس إبراهيم
دفعت نتائج الحرب العالمية الثانية بالولايات المتحدة إلى الأمام، ودعمت مساعيها في الوصول إلى مصافّ الدول العظمى، ولاسيما بعد هزيمة ألمانيا وانشغالها بإعادة إعمار ما دمّرته الحرب، فيما فرنسا مشغولة بوضع الملح على جراحها، وبريطانيا تحاول الحفاظ على هيمنة مالية، كل ذلك أدى إلى تسلط الرأسمالية الأمريكية وطفوها على سطح النظام الدولي كقوة عظمى، ليتراجع بذلك الدور الأوروبي على الساحة الدولية، إضافة إلى الأحداث في نقاط مختلفة من العالم، ولاسيما ما كان يجري في الاتحاد السوفييتي السابق.
ولا يخفى أن الولايات المتحدة الأمريكية قد دعّمت هذا التفرد السلطوي بـ”قيادة” النظام الدولي بشنّ حروب عسكرية مختلفة، كحرب فيتنام، ما أصاب العالم بالذهول والرعب ودفعه إلى الانكفاء والانغلاق على الذات والانشغال بالتحضير لحرب متوقّعة في أي وقت، فالخطر الأمريكي قائم وجميع دول العالم أهداف متوقّعة لنيران الرأسمالية الأمريكية.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بدأت الدول تستجمع قواها وتلملم أطرافها، فيما نشأت، وتحت النفوذ الأمريكي المطلق والمتسلط، منظمات وهيئات دولية، كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها، لتتحكّم بالاقتصاد العالمي، بينما تنبّهت بعض الدول لهذا الخطر وذهبت لتشكيل مجموعات اقتصادية خاصة بها، مثل المجموعة الاقتصادية الأوروبية.
يمكن القول: إن بداية الإرادة الأوروبية في التفرّد بالقرار والانكفاء عن القطب الأمريكي هو معاهدة “ماسترخت” التي قضت بتشكيل الاتحاد الأوروبي وتذليل الفوارق بين الدول الأوروبية، لتشكيل قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية منفردة يمكنها الوقوف في وجه العنجهية الأمريكية، وما زاد دافع أوروبا للوحدة والتماسك إدراكها أن واشنطن تحاول التعامل مع دول الاتحاد كأجزاء منفصلة، فتبني علاقتها مع كل دولة على حدة لأنها ترفض وتعارض أن يكون لأوروبا صوت واحد!.
وقد أدركت أوروبا أن الوقوف في وجه “التنمر” الأمريكي لن يتمّ دون دعم إعلامي وترويج ودعاية لهوية أوروبية موحّدة، لذلك فقد عملت على إنشاء القنوات التلفزيونية التي تغطي أوروبا كاملةً، لكن أتت حرب الخليج كصدمة كبرى أثبتت تفوق واشنطن إعلامياً وعدم خروج أوروبا من دائرة التبعية للولايات المتحدة، حيث احتكرت قناة “CNN” البث وتغطية الأحداث المتعلقة بالحرب لصالحها، لكن أوروبا اتخذت من حرب الخليج درساً ترتب عليه ردود فعل سريعة بتطوير عاجل على المستوى الإعلامي والاقتصادي والعلمي، فبدأت التكتلات الاقتصادية تتماسك وتحدّد أهدافها بدقة أكبر لمواجهة الوحش الأمريكي.
إذاً، يمكن الحديث عن العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة ببضعة جمل مؤداها: إن الولايات المتحدة تتعامل مع الطرف الأوروبي كـ”تابع”، بينما تسعى أوروبا لكسر هذه الصورة والتعامل بمبدأ “الندّيّة والشراكة” مع واشنطن، ورغم ذلك، فإن نقاط الاشتراك والتوافق تطفو على السطح عند الحديث عن قضايا العالم العربي فأطماع ومصالح الطرفين تتلاقى على الساحة العربية.
وبخصوص العلاقة مع روسيا، كما سياسة الولايات المتحدة مع جميع الدول فإنها تريد أن تمرّ كافة العلاقات والصفقات الدولية من خلالها، فمثلاً، يحق لترامب أن يعقد الاجتماعات مع فلاديمير بوتين بينما يهاجم الأوروبيين عند تقاربهم من الروس، فمثل ترامب كمن يحاول إمساك “بطيختين في يد واحدة”، يمسك بيد الروس من جهة ليعيد الإفلات والإمساك بالأيادي الأوروبية من جهة أخرى!.
وفيما أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015 في أيار 2018 سبّب انتكاسة في العلاقات الأوروبية الأمريكية، التزمت إيران بالاتفاق وحاولت أوروبا دعمها بالالتفاف على العقوبات التي فرضتها واشنطن ضد إيران، حيث شكّلت كياناً قانونياً بهدف مواصلة التجارة مع طهران.
أخيراً، اهتزّت الثقة في العلاقات الأوروبية الأمريكية عند انسحاب واشنطن من اتفاقية المناخ الموقّعة في باريس عام 2015 من جانب 195 دولة، وتصعيدها الإجراءات التجارية ضد أوروبا حيث فرضت رسوماً جمركية على واردات الصلب الأوروبية في آذار 2018.
يمكن القول، ويشهد على ذلك ما ذكره صامويل هنتغتون في “صراع الحضارات”: “إنّ التاريخ وليد الصراع”، إن التسلط الأمريكي على القرار الدولي وتفرده في الساحة الدولية زائل، ولاسيما مع صعود قوى عظمى، فالعالم كله اليوم يشهد التدرج الروسي والصيني وغيرهما على سلم القوة الدولية!.