دراساتصحيفة البعث

بعد عامين على تحريرها.. حلب تحتفل بالحرية

علي اليوسف

يعجزُ اللسان عن وصف تحرير حلب الكبير بالعبارات الإنسانية، خاصةً وأن دم الشهداء الذي روى تلك البقعة الجغرافية لم يذهب سدى. وها هي حلب تحتفل مرة أخرى بذكرى تحريرها كاملة من سيطرة الجماعات الإرهابية التي بقيت على مدى أكثر من خمس سنوات في المدينة، لم تنشر فيها سوى الخراب والدمار والقتل.

اليوم تحتفل حلب بالحرية وتعود إليها الحياة الطبيعية بمناسبة مرور عامين على تحريرها من سيطرة الجماعات الإرهابية، فما الذي تغيّر في مدينة حلب بعد التحرير؟. في الواقع تغيّر كل شيء، اليوم عادت الحياة بكافة أشكالها، وتحركت عجلة الاقتصاد، وهذا لم يكن ليتحقق لولا إصرار القيادة السورية على تحرير حلب مهما كانت الأثمان، مترافقاً مع تضحيات الجيش العربي السوري الكبيرة، ودعم الأصدقاء والقوات الرديفة.

نحن الآن أمام تغيّر في مجرى التاريخ، لأن حلب اليوم تختلف عما كانت عليه قبل التحرير، لجهة عودة مؤسسات الدولة، وعودة الكهرباء والماء، وعودة البنية التحتية إلى العمل، وكأننا في بداية عام 2012 عندما كانت مدينة حلب خالية من أي إرهابي، والأهم أنها لم تعد الآن في خطر.

الحياة تعود للأسواق

بدأت الحياة تعود إلى المدينة، وبدأ أهلها وزوارها بالتدفق مرة أخرى إلى المحلات التجارية، خصوصاً بعد إعادة فتح سوق خان الجمرك وغيره من الأسواق الأثرية. وأعادت العديد من المحلات فتح أبوابها، وشهد السوق في المدينة القديمة عودة صانعي الصابون والنساجين. ولعلّ الإسراع بافتتاح الأسواق أعاد الروح إلى المدينة “بسرعة مقبولة”، بعد سنوات من الحرب أجبرت الأهالي والتّجار على النزوح عنها. والكلّ يعلم أن الأسواق القديمة تُعتبر شريان الحياة الأساسي للمدينة، لأنه عندما تدبّ الحركة فيها تدبّ أيضاً في سائر شوارع المدينة وهذا ما حصل بالفعل، كما بدأت السياحة الداخلية تعود إلى المدينة، ولو بشكل خجول، مع توافد أبناء المحافظات الأخرى إليها بعد سنوات من الغياب.

في الحقيقة، أشرقت الشمس من جديد على أكبر مدينة سورية، وبدأت العوائل بالرجوع إليها، هذا فضلاً عن عودة الأطفال إلى المدارس. لقد غيّرت المعارك التي شهدتها مدينة حلب طوال أربع سنوات معالم المدينة الأثرية القديمة المدرجة على لائحة التراث العالمي للإنسانية بأسواقها وخاناتها. كما أُعيد افتتاح خط القطار بين شرق حلب وغربها بعد إصلاح الأضرار التي أصابت السكك وأوقفت حركتها لمدة أربعة أعوام.

مع بداية استرجاع الدولة السورية أراضيها بدأت الحياة تعود إلى السكان، فقد تمّ تكليف جميع الوزارات بإعادة الحياة في المناطق المنكوبة، فتجتهد وزارة الكهرباء والنقل والمياه والزراعة والشؤون الاجتماعية في إعادة ضخ الحياة إلى هذه المناطق. وأُعيد إضاءة الكثير من الشوارع بالطاقة الشمسية، ولكن ما هو ملفت للنظر هو إصرار الناس على إعادة الحياة إلى مدينتهم العريقة التي كانت عاصمة للثقافة الإسلامية وقدمت للعالم أكبر علماء الإسلام والفلسفة والفكر، وأنجبت رواد التنوير وعلى رأسهم العلامة عبد الرحمن الكواكبي صاحب كتاب “طبائع الاستبداد”. بسرعة فائقة فتحت المدارس والثانويات والجامعات أبوابها، وعادت الحياة إلى حلب، وازدحمت الأسواق بالمواد الغذائية والمنتجات الزراعية.

ومع هذه الذكرى بات العالم، وليس سورية وحدها، يعيش مرحلة متطورة من صراع الإنسان في مواجهة الإرهاب، وهذا الصراع برز من خلال التعاون في ساحة الحرب بين سورية والحلفاء، سواء أكان في المجال العسكري أم الاقتصادي، والحقيقة أن التعاون الروسي أثمر في بناء قواعد الثقة والتعاون في مسرح الحرب الكونية التي تشنّها الولايات المتحدة ضد الوجود الإنساني والسيادة الوطنية للدول، وأيضاً في الصراع ضد محاولات الولايات المتحدة لتطويق روسيا عبر جبهة بحدود 6000 كم وأحد نقاطها في سورية، وعبر الصواريخ الأمريكية التي تحيط بروسيا من كل الجهات.

لقد تمكّنت القوات السورية من استعادة حلب بمساندة القوات الروسية، ووضعت المسمار الأول في نعش مخطّط تقسيم سورية وتدميرها. ومن المؤكد أن النجاح الذي تحقّق في سورية بشكل عام، أدى إلى انهيار المشروع الصهيوني- الوهابي الذي كان يسعى لإقامة مناطق عازلة، وقد فشلت جميعها من خلال الضربات الروسية والتنسيق السوري الروسي.

وتطور هذا التعاون إلى تحالف استراتيجي واسع امتد فيما بعد إلى الساحة الإقليمية والدولية بفضل التعامل الجديّ لروسيا مع هذه الأزمة التي عصفت بدول الشرق الأوسط بدعم إقليمي ودولي لتحقيق أهداف ومصالح ضيّقة. ولهذا فإن تحرير حلب كان بالتنسيق مع التحالف الإنساني بين قوى المقاومة التي ترفض أن تكون حدائق خلفية للبيت الأبيض، والتي مازالت تحتفظ بسيادتها الوطنية. نعم إن هذه الدول أثبتت قدرتها على التعاون البنّاء والفعّال، واستطاعت أن تؤكد على وجود تحالف مناهض للهيمنة الأمريكية في العالم، الأمر الذي أكد على مصداقية روسيا أمام أصدقائها وأمام العالم وتعزيز دورها في مكافحة الإرهاب.

في المقابل، فشلت الولايات المتحدة بشكل آنيّ في تمرير هذا المشروع وهذا المخطط  بكامله، وتمكنت من طرف آخر من استهداف وتفكيك المنطقة العربية، وهناك برنامج لن تتراجع عنه الولايات المتحدة، لكن إذا ما بقي هذا الحلف المقاوم بمواجهة هذا المخطط مع الدول الداعمة كالصين وغيرها ودول أمريكا اللاتينية فلاشك أنه ستكون هناك صعوبة على الولايات المتحدة الأمريكية في تمرير هذا المشروع في المنطقة بالمدى المنظور على أقل تقدير.