مع الأحداث ماذا يحدث في أوروبا؟
فوضى وارتباك غير مسبوقين يعيشها معظم العواصم الأوروبية هذه الأيام، فلندن مشغولة بترتيب خروجها من الاتحاد الأوروبي، وقادتها منقسمون بين البقاء والخروج، ومن يريد تحسين الشروط، وباريس، ولأكثر من ستة أسابيع، منهكة تارة بتظاهرات السترات الصفراء، التي فاجأت الحكومة والرئيس، وتارة بموجات إرهابية، وروما يتهرّب قادتها من نظرائهم في الاتحاد الأوروبي كي لا يوقّعوا على اتفاق الميزانية الجديد، وفي برلين تعكف المستشارة الفولاذية أنجيلا ميركل على جمع أمتعتها، وطي حقبة طويلة من الحكم، فاتحة الطريق أمام من خلفها على رأس حزبها.. والحديث يطول.
ولكن السؤال المطروح اليوم: هل تفجرت كل مشكلات أوروبا فجأة وبنفس التوقيت؟، وهل هناك من يريد أن يعطّل التوافق الأوروبي، ويبقي المشكلات كي لا يخرج قادة أوروبا بصوت موحّد؟، أم أن الدول الأوروبية شاخت بفعل سياساتها، وحان وقت التغيير؟.
لا شك أن حلم الوحدة الأوروبية الذي انطلق مع معاهدة ماستريخت الموقّعة عام 1992 لم يكن مجرد فكرة نرجسية لدى قادة ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ، وإنما كان الهدف بناء منظومة أوروبية عابرة للقوميات والحدود، تكون فيها كلمة أوروبا في العالم موحّدة، وذات وزن سياسي فاعل في الأزمات والقضايا الدولية.. فكانت السوق الأوروبية المشتركة والبرلمان والمؤسسات والمحاكم، حيث ساهمت السياسة الأوروبية بقوة على الصعيد العالمي، وكانت عاملاً مهماً وحيوياً في الكثير من القضايا، ومع بداية العقد الألفية الثالثة كانت طرفاً رئيسياً في إنجاز اتفاقات دولية “المناخ – الاتفاق النووي الإيراني”، حتى عندما خرجت واشنطن من الاتفاق النووي، أخذت موقفاً مغايراً، وأكدت أنها بصدد المحافظة على الاتفاق، وهذا رأى فيه الكثير من المتابعين أنه خروج غير مسبوق عن السياسية الأمريكية، وقد يكلّف أوروبا الكثير.
ولكن الطرح بتشكيل جيش موحّد، مهمته الدفاع عن أوروبا، الذي قدّمه الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، كانت له ارتداداته على ضفتي الأطلسي، حيث سارعت واشنطن عبر رئيسها ترامب، مذكرة الأوروبيين بأن بلدانهم لم تكن لتصمد في الحربين العالميتين لولا مساعدة الولايات المتحدة، كلام يحمل في طياته رسائل كثيرة للحلفاء من الجانب الآخر من الأطلسي، أنه لا مجال للحديث عن أي كيان عسكري جديد، والناتو موجود، بمعنى لا مجال لأن تكون أوروبا موحّدة في هذا الجانب المهم والجوهري، فالحماية التي تقدمها واشنطن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية من بوابة الناتو تكفي، وما عليكم سوى أن تدفعوا فقط.
في المقابل لا يمكن أن ننكر أن السياسات الجديدة قد فعلت فعلتها في المجتمعات الأوروبية، ودفعتها إلى التقوقّع والانعزال، لذلك رأينا أن البريطانيين صوتوا لخروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي غير مكترثين بعواقب ذلك على اقتصادهم وحياتهم الاجتماعية، وأن الإيطاليين صوّتوا لأحزاب شعبوية تؤمن بإيطاليا خالية من المهاجرين وبعيدة عن بروكسل.. والأمر ينطبق على التشيك واليونان..
خلاصة القول: إن الحلم الأوروبي بالوحدة تعترضه الكثير من القضايا والمشكلات الداخلية والخارجية، ولعل أخطرها رفض الولايات المتحدة بأن يكون حلفاؤها المقربون خارج عباءتها.
سنان حسن