ازدحامات
اعتدت مؤخراً على طول المسافات التي كانت تبعدني عنك، بعد أن مرنت عليها روحي كثيراً. أخطوها على حدود طرقات الشوق الطويلة، حاملةً حنين القلب ووجعه وكلماتك في حقائبي، وتذاكر توصياتك “ابتسمي”،لأعبر بها الأيام ذهاباً وإياباً، وصولاً إلى المحطة الأخيرة التي تعيدني مرة جديدة إليك.
*****
لعلَها دعوات المرحومة أمي “الله ييسر طريقك”، ولعلها كلمتك “ابتسمي” التي أنجدتني يومها من ذاك الهجوم البشري القاتل على (الميكروباصات)، ومن ذاك التدافع المخيف الذي كانت تحدث طقوسه المتكررة في تلك العقدة الإستراتيجية (الكراج). متجاوزةً بذلك كل الاختناقات المرورية وكل الوجوه المهمشة وكل الأنقاض والمضائق والحفر، غير مكترثة لما يحدث بداخلي قليلا، أتابع، أضحك وأتمتم (إيه كلهم عندهم سيارات، ورزق الله على العربيات وعلى أيام العربيات) لأحظى أخيرا بإمكانية وصولي إلى شط الأمان بحمد الله وشكره.
*****
أمر بخطواتي المترنحة بذاك الطريق، يقع نظري على محل المرايا التي تصور وجوهاً غريبة لأولئك اللصوص المنافقين، وسكاكين مهاترتهم بلقمة عيش العباد وانعكاسات أيدي بعض الأطفال الذين يلمعون مرايا السيارات. أمضي إلى نهايته..
الحمد لله وأخيراً وصلت، أعتلي درج ذاك البناء الذي كثرت فيه أغرب أنواع الاختزالات لكل من الصباح والأمسيات. اختزالات للمناطق، للهجات، للحكايات ولعبارات تصف حجم العويل في ذاك العمران المحطم والذي أطلق عليه اسم وطن، أنفض غبار الضجيج الذي علق بثياب لحظاتي.. أتناول مفتاح السكون لأدخل عالمي الصغير النائي الذي كان يشبهني.
افتح نوافذ غرفتي لأسمح لعيون الشمس أن تطل منها، خوفاً من سيطرة رائحة العفن التي كانت تسكن قصاصات أوراقي، أمشي فيها حافيةً وببطءٍ شديد حفاظا على كبرياء سجاد الصمت الذي فرشته في أرضها، وهيبةً من فوضى الكتب المبعثرة والعبارات التي تناثرت في حدودها الضيقة الواسعة.
أحاول أن أرتب أبجدية أفكاري فيها، أرنم تعويذة النسيان لتلك المشهدية والصبر حول وحيال ماشهدته بصيرتي وما سمعته العين قبل الأذان من تأوهات وآلام مخاض كل أطفال وأبناء بلادي من رحم الأحزان، أنثر غطاء الأمنيات على طاولتي برغبة جامحة بسلام يضم كل أرجائك وأرجائها، أضع أصيصاً من الأسئلة على شرفتها لأجد فيما بعد أجوبة لحيرتي. ما الذي يفعله القتلى إلى الآن في هذه الديار وماذا تفعل أنت بكل هذا الطاغوت من الخوف والابتعاد؟ هل يصير الصبر دواء يشفي كل الجراحات، وهل ستنقلب الأدوار، الغني يرتدي ثوب الفقير والضحية ينزع ثوب الجلاد؟.
أتأمل شهاداتي التي علت جدرانها الوحيدة مثلي والتي غطتها أتربة الزمن
أمسحها وأضحك كثيراً كثيراً، فيرد علي الصدى بضحكة ساخرةٍ مني ومنها. يا الله تزدحم مجددا الأفكار في رأسي، وفجأةً تفر هاربةً مني لتقع وترتطم متكسرة بالأرض.
لا حول ولا قوة إلا بالله ما الذي حدث؟
أتذكر مرة جديدة “ابتسمي”.
أستيقظ بمزاج متثائب مرة أخرى على جرس الازدحام، وإذ بجارتنا تحمل بين يديها
حكايات الثرثرة، وشريط الأخبار والأبراج غير عابئة بأرقام الموتى والمهجرين والمشردين في الطرقات، أشكرها فقد أيقظتني من غفوةٍ طويلةٍ كنت قبلها أتابع مستجدات الأخبار الثابتة والأوبئة والمؤشرات المتكررة، وأراقب وجه ذاك الاختراع الجامد المتكلم “الموبايل” عله يثير صوتا يوصلني بك أنت المهاجر مني إلي وبدمي، فيكسر ساعات الوقت التي كانت تجري بطيئة كسلحفاة.
*****
إنك لا تتغيرين؟ أنت كما أنت، العالم كله يتغير. وتتابع سردها عن مساحيق الماكياجات وعن آخر أخبار الفتيات وصرخات عالم الموضة والموديلات.
وكأنها لا تعلم أن الحب هو الحقيقة الوحيدة الكفيلة بتغيير العالم ومظاهره فيغدو كل شيء بعيننا أجمل.. أبتسم وأكتفي بالإنصات إلى صوت آخر في داخلي وأتذكر: كم يزدحم الشوق في قلبي لصوتك، كم يختنق الأمل في عيني، كم كثيرة أحلامي بلم شمل لتلك الدقات وبكاميرا حرة ترصد بعين الحقيقة ماجرى علينا في غيابك من تحولات، أنت القائم والمقيم في بلدان البرد والمنفى منتظرا فسحة أمان توصل شوقك بي إلى موطننا بعد طول هجران، لكن ليس بوسعي على الرغم من كل تلك الازدحامات إلا أن أعود بخطواتي إلى طرقات الحنين، وأكتب لك وعنك لينتهي العالم وأحفظك مراراً في حقائبي، كي أتحمل السير إلى الأمام لكن مع ابتسامة.
رشا الصالح