ثقافةصحيفة البعث

أهلوك أحبابي

وجه الحبيبة بعد عملية جراحية لجبر عظامه التي كسرت، ولنفترض بعد حادث سير وقع لها، يبقى جميلا عند المحب الصادق، لا تتغير ملامحه وعذوبته، لا تتغير وجناته وضحكته حتى وهو صامت ملفوف بالشاش وتكسوه مسحة زرقاء.

هذا المثال ينسحب على علاقة السوريين بوطنهم، كيف يرون سوريتهم التي ألفوا وتمازجوا معها فصارت أرواحهم من شهيقها وقلوبهم من زفيرها الملتهب الآن، قلوب مصاغة من النار والحبق.

من شاهد في ليلة “عيد الميلاد” المجيد، الأشجار التي علق عليها السوريون أحلامهم وآمالهم وألمهم، لكان عرف طبيعة هذا الشعب وروحه القادرة على الفرح، حتى والدم ينزف من الخاصرة والعيون.

بابا نويل لم تكن هداياه من النوع الذي يفضله الأطفال عوض الحلوى والسكاكر والألعاب، بل كانت أكثر واقعية جدا على حداثة سنهم، خاصة وأنهم وعوا زمن الحرب، وبين أيامها الحمراء كبروا وتعرفوا على الحياة بأبشع أوجهها وأجملها أحيانا أخرى، فالحرب كما تُخرج أبشع مافي النفوس، هي أيضا تُخرج أجمل ما فيها؛ أحد الأطفال طلب أن يعود والده الشهيد إلى البيت، وطفل آخر طلب إلى بابا نويل علبة جبنة يراها على التلفاز فقط، وهذه واقعة حقيقية، ومنهم من طلب حذاء دافئا بعد أن خرجت أصابع قدميه من حذائه المشقق، ووالده لا يملك ثمنه، وغيرهم كثر من الأطفال، الذين باتوا ليلة الميلاد كما في كل يوم، في تلك الحديقة أو غيرها، أو على الرصيف يغطون أجسامهم المرتعشة حتى النخاع، بالجرائد والكراتين، ليحلموا بعائلة وطاولة ممتلئة بأنواع الطعام، يجلسون حولها مع أحبابهم، الذين لا أحد يعلم ماذا حل بهم؛ نعم لقد ناموا باكرا ليحلموا بهدايا تهبط من السماء على قلوبهم الرقيقة فتنعشها، وتبث فيها دفء الأمل، منهم من استيقظ، ومنهم من دخل عتمة خياله، وبقي ظله غافٍ كما كان.

من رأى أهل هذا البلد الأمين، وهم يُشعلون شموعهم من شموع بعضهم البعض في ليلة الميلاد، وهم يحتفظون بأمنية في قلوبهم وأدعية لأبنائهم الساهرين على الجبهات، يصدون كل وحشية العالم، لا يصدق أن هذا الشعب الجبار، مرّ بالأهوال التي مرّ فيها وبقيت ضحكته مرتسمة على شفتيه، بينما الدمعة عالقة في عيونه، فهم لا يرون أو لا يريدون أن يروا وأن يصدقوا واقعية مشاهد الدمار المنتشرة وبفجاجة على كل شاشات العالم لحبيبتهم الملفوفة بالشاش الذي يرشح دماً، لكنها حبيبتهم الخالدة، وجهها لا يتغير بالنسبة لهم وضحكتها خالدة، أما قبلتها فتحيي العظام وهي رميم، وما من حرب قادرة على خدشها ولو بوردة، يغارون عليها حتى أن لسان حالهم يقول: “تقبريني اللي بيرشك بالمي، منرشو بالنار”.

بعد ما يقارب السنوات الـ9 من الحرب، بعد أن مات من مات وهاجر من هاجر وفُقد من فُقد، من يُمعن النظر في المجتمع السوري، في تفاصيله الحقيقية وطبيعته القائمة على المزاوجة والمواءمة الإعجازية بين ماء الحلم ونار الواقع، سيجده هو هو لم يتغير، لم تزل النميمة المنعشة من طبيعة جلسات رواد مقهى الروضة من الكتاب والمثقفين، الذين يتبادلون الفؤوس والطعنات ولكن على شكل أحاديث ودية، محبو القصيدة الكلاسيكية ونزالهم الأبدي مع مريدي قصيدة النثر، لم يتغير حاله على رواد مقهى الهافانا، الذي ما زال قادرا على اجتذاب الحالمين بزمن ولىّ، زمن كانت الحياة فيه تخرج صباحا من المقهى وإليه تعود مساء، طلاب البكالوريا المغامرون وهم أمام واجهة إحدى دور السينما، يتأملون “بوسترات” الأفلام ويتناقشون أيها أكثر دهشة وأيها يستحق الحضور، حتى أبو هيثم “بائع الشاي” في شارع الأمين لم يغير عادته في غسل الشاي الخشن بالماء البارد قبل أن يغليه جيدا ليصبح الشاي مركزا ويصفه لمن يقدمه له بـ “دقلي دمعة هالشاي” وتفاصيل كثيرة من صميم طبيعة أهل هذا البلد.

لم يعتد السوريون الحرب وهم في كل يوم يلعنونها ويدعون عليها كما لو أنها جارة بغيضة ومكروهة، لكنهم تعلموا كيف يصبحون أكثر قدرة على مناورة الوقائع اليومية التي صارت طبيعية في يومياتهم، يسمعون عن قذائف سقطت عليهم من نشرات الأخبار، ثم يبدؤون بالنظر من النافذة ليروا أين وقعت القذيفة، وهذا يعني أنهم لا زالوا على قيد الحياة وهذا جيد، يسقط الهاون في منطقة ما، يدميها لكن ماء طاهرا يشطف الدماء وتعود الحياة لتتمشى في الشارع وكأن شيئا ما لم يحدث.

لم يغير السوريون عاداتهم مع حبيبتهم، فهم يشربون القهوة صباحا وصوت فيروز يخرج من كل بيت وشرفة، من الدكاكين الفقيرة والمولات الفخمة، من البسطات وأكشاك القهوة والدخان المهرب، حتى في المعركة، لن تجد جنديا سوريا يحارب دفاعا عن جمال حبيبته إلا ويشرب قهوته صباحا وهو يستمع لفيروز، فيروز في الجبهات تغني “جايبلي سلام عصفور الجناين”

من بقي من السوريين لم يبق لأنه لا يستطيع أن يسافر، أو لأنه لم تطله الحرب، فما من سوريٍّ لم تدمه الحرب، ببساطة من بقي منهم وهم الغالبية العظمى، حياته معلقة في المكان، وروحه مربوطة بمرساة ثقيلة في ترابه، فلا قدرة لديه على المغادرة وقدماه مكبلتان بقيود لا مرئية تعيق حتى التفكير بالموضوع.

تمّام علي بركات