ثقافةصحيفة البعث

الشتات الدرامي المحلي

شتات فني أصاب فن الدراما التلفزيونية المحلية، شتات سببته الحرب وما أفرزته أيامها الطويلة، من وقائع متغيرة متعلقة بها كصناعة أهم أركانها الممثلون المتفرقون اليوم حول بقاع الأرض، وعوض المكان الجغرافي الواحد الذي كان يجمعهم ومنه انطلقت النجومية المحلية للكثير منهم نحو النجومية العربية والعالمية أيضا.

والواقع إن العديد من تلك الدول التي استفادت من هذا الشتات، لم تكن تحضر فيها هذه الصناعة الفنية، وصارت اليوم في مراحل متقدمة جدا فيها، كما في الأعمال الخليجية واللبنانية وفي أعمال “البان أرب”، التي اتكأت على نجومية الممثل السوري، في هذا العمل أو ذاك كما حدث واتكأت في الماضي على أكتاف الفنيين السوريين العاملين في الصناعة الإعلامية عموما، لإطلاق أهم محطاتهم التلفزيونية بأنواعها، ومنها لا زال حتى الآن يعتمد على العقل والحرفية التي يتقنها السوري على عكسهم، من مخرجين إلى مصورين، مونتيرات، مهندسي صوت،وغيرهم من المشتغلين في هذا المجال، فالخبرة هي التي تصنع الآلة، لا الآلة هي التي تصنع الخبرة، والنجومية الدرامية التلفزيونية تحتاج لخبرة، اكتسبها هؤلاء من بلدهم الأم، من مدارسها وجامعاتها ومعاهدها، ومن طبيعة الحياة نفسها فيها. حتى أن العديد من الفنانين السوريين، الذين قرروا البقاء في الوطن، رغم المآلات السلبية التي طرأت على أعمالهم في هذا الفن لأسباب عديدة، صاروا مضطرين للسفر إلى هذا البلد أو ذاك لتصوير دور ما في عمل ما، كالفنان الكبير “دريد لحام” الذي اضطر للسفر إلى بيروت مرات عديدة للغرض ذاته، كما حدث وشاهدنا في عمل “سنعود بعد قليل”، والأمثلة عديدة.

هذا الشتات الفني، أصاب جسد الدراما التلفزيونية، بعطب،يعمل بعض المبدعين على تعافيها منه وعودتها لسابق عهدها بل ربما أفضل، فعوض الدراما المحلية السورية الواحدة، والتي كانت فتية وفي قمة عطائها، صرنا نرى أكثر من دراما تحمل الجنسية السورية، فمن ترك البلاد من هؤلاء الفنانين، صار أيضا يعمل في دراما موجهة، توصف أيضا بالـ “سوريّة” باعتبار أغلب “الكاست” الموجود فيها من الفنانين السوريين، حتى لو تم التصوير في الموزامبيق مثلا!

ما حدث على مساوئه، ورغم تأثيره السلبي الكبير على هذه الصناعة الإبداعية، التي كنا نفاخر بها بكونها الأفضل عربيا، حتى أنها أوقعت الدراما المصرية، في أزمة تسويق لم تحصل لها سابقا، عندما تهافتت المحطات الفضائية الأهم، على شراء الأعمال الدرامية السورية، إلا أنه كشف الغطاء عن فنانين سوريين شباب ومخضرمين، عملوا بجهد لا يصدق ليردموا هذه الفجوة، وقد نجحوا في ذلك، حينا، وفشلوا فيه أحيانا، وهذا أمر طبيعي في صناعة إبداعية، تُصنع والحرب مستعرة على بعد عدة كيلو مترات فقط، من أماكن التصوير في هذا العمل أو ذاك.

هذا التأثير وما رافقه من مساوئ أخرى تتعلق بالتوزيع وعملية العرض والطلب، جعلت الكثير من الفنانين السوريين، يعملون في أعمال درامية مبتذلة، كما مسلسل “الأخوة” على سبيل المثال لا الحصر، حيث القصة مأخوذة برداءة عن فيلم أجنبي ما، لكننا إذا ما نظرنا إلى المعايير التي يضعها “المنتجون الجدد”، فسنجدها على الشكل التالي في معظمها، فتاة جميلة جدا ومثيرة، وشاب وسيم وثري يعيش في أرقى المدن، ولديه سطوة ونفوذ، يلتقيان في قصة حب ساذجة، لا حبكة فيها ولا أحداث مترابطة تجعلنا نصف العمل الدرامي منها ولو بالمقبول حتى!أيضا على سبيل المثال لا الحصر، الفنان “تيم حسن” في العديد من الأعمال الدرامية التي كان بطلها، مثل “الهيبة” بجزأيه،تشيلو، نص يوم، الأخوة”، وغيرها من الأعمال الدرامية التي تحملها إلى جانبه وعلى حساب نجوميته أيضا، النجمة الفلانية، وعلى مدى الإثارة المستعدة لتقديمها، وهي ترتدي فستانا ومجوهرات تروج لهذه الشركة أو تلك، كما لو أنها تُمثل في دعاية ترويجية طويلة، البطلة التي كانت غالبا عارضة أزياء ثم صارت من أهم نجمات التمثيل في العالم العربي، ظهرت ولمع نجمها على حساب نجومية الفنان السوري، أما الورق “السيناريو” فلا فكرة فيه ولا قصة يحكيها، تلك الأعمال تنظر إلى الممثل باعتباره “براند” لها، كما يوجد لمعظم المنتجات “براند” خاص فيها،وفي المقارنة بين الأعمال الدرامية المحلية فعلا، التي ظهر فيها ولمع نجم فلان من الممثلين أو الممثلات، وتلك التي تحمل الصفة ذاتها، أي أنها سورية، لكنها تُصنع خارج البلاد، سنجد الفرق الشاسع، بين أداء هذا الممثل أو ذاك، في الأعمال الدرامية التلفزيونية المحلية، التي كانت رائدة في مجالها، وبين الأعمال الدرامية السورية المهاجرة، وسنرى أيضا جودة القصة وأهميتها في الأولى، وثرثرتها التي بلا طائل في الثانية، حتى أن العديد من الفنانين السوريين المقيمين في البلد، سوف يعملون في تلك الأعمال بعد التراجع الكبير الذي أصاب درامانا المحلية، خصوصا وأن الأجور في تلك الأعمال خرافية، بينما أجر الممثل في الأعمال المحلية، صار اقل بما لا يقارن معها.

هذا الشتات الدرامي، وبعد أن خلف وراءه مشكلة عويصة في هذا الفن، كان الهدف منه انهيار الدراما المحلية، لكن سورية “ولادة” وعوض النجم الواحد، ظهرت خامات شبابية مبدعة، رفعت هذا الحمل الثقيل، ومضت فيه، جاهدة لإعادة الألق للأعمال المحلية، التي انخفض مستواها الفني والفكري، انخفاضا متواترا، لكنه ُيظهر في الفترة الأخيرة بشائر التعافي، وذلك من خلال عدة أعمال صُنعت فوق الجغرافية السورية، وبالإمكانات الشحيحة المتوفرة لها كصناعة إبداعية، وأيضا من خلال العديد من النجوم المحليين الذين ظهروا وقالوا كلمتهم، وهم على عهد دراماهم التي عشقوها، ورفضوا أن يتركوها بأي ثمن.

تمّام علي بركات