أوراق عام جديد
في الجزء العائم من المشهد السياسي الظاهري لبداية السنة الجديدة، تبدو سورية، للوهلة الأولى، موزّعة بين كونها مجرد أرض “رمل وموت” – كموقع جغرافي بحت – يجب الخروج منها بحسب ترامب، وبين كونها – كموقع جغرافي وسياسي مفصلي- مجالاً لمحاولة “تهاوش” عربية جديدة، ولكن بقالب سياسي هذه المرّة، فيما المشهد الحقيقي يشي بأن وصف ترامب هو، كالمحاولة العربية، اعتراف مضمر بفشل استراتيجي لطريقة وأسلوب “تهاوش” الطرفين في عملية لي الذراع السورية خلال الأعوام السابقة، لكنه أيضاً محاولة جديّة للبحث عن أسلوب جديد لتحقيق الغاية القديمة ذاتها في سياق الحقيقة القائلة: إن الصراع المستمر هو جوهر التاريخ ومحرّكه الرئيس، وإن السلام هو مجرد هدنة بين حربين لا أكثر ولا أقل.
والحال فإن الدلائل على صحة ما سبق كثيرة جداً، وربما كان أبرزها ما يمكن قراءته من تذبذبات “التغريدات” الترامبية حول سورية، فهي، كما قال، أرض “لا ثروات كبيرة فيها”، لذلك يريد أن ينسحب منها بـ”أسرع وقت”، لكنه، وأمام هلع الأدوات الإقليمية وضغط الجناح الامبراطوري في الداخل الأمريكي عليه، يريده “انسحاباً ذكياً”، لا موعد أو مدة زمنية له، يتركها، من جهة أولى، بعهدة الحليف الأطلسي التركي، لأنها له كما يقول – وتلك إعادة هزلية لمشهدية وعد من لا يملك لمن لا يستحق، ولا يقدر أيضاً – ومن جهة ثانية، وكي لا يشكّل انسحابه “كابوساً لإسرائيل”، فهو، أي ترامب، “يؤيد وبقوة” الاعتداءات الإسرائيلية عليها، وأكثر من ذلك، ترك الأبواب مفتوحة للعدوان المباشر عليها، عبر استخدام أراضي دولة ثالثة، هي العراق، في حال اضطرته المصلحة الأمريكية “الإسرائيلية” أو حاجته “للأموال” العربية لذلك.
وبقراءة سريعة يمكن وصف هذه “السياسة الترامبية” اتجاه سورية في العام الحالي، بأنها سياسة “لئيمة” بالمعنى الحرفي والمجازي للكلمة، فعدا عن إنه من الممكن قراءتها كطلب استدراج عروض مالية يتبعه عملية فض أسعار لترجيح إحدى كفتي البقاء أو المغادرة، فهي أيضاً، عملية مركّبة تزاوج بين ضرب الخصوم بالحلفاء، وبين ضرب الخصوم والحلفاء، كل على حدة، ببعضهم البعض أيضاً، كاختبار ميداني لفكرة “فرض سياسات عالمية غير مُكلفة، وإحداث صراعات متعدّدة في العالم”، يخرج ترامب فائزاً بغض النظر عن أي نتيجة انتهت إليها هذه الصراعات.
واستطراداً، لا يمكن النظر إلى سياسة ترامب السورية دون وضعها في إطار سياسته العالمية الأوسع، خاصة وأن الرجل يحمل، بشخصه وبالقوى السياسية والمالية التي يمثّلها، مشروع تفكيك النظام العالمي الذي كانت بلاده، وللمفارقة، هي من أشرفت على إنشائه بعد الحرب العالمية الثانية، ودأبت على رعايته طالما كان منسجماً مع مصالحها، لكن بما أنه، كما قال أحد الكتّاب، “أتاح في مرحلة لاحقة صعود قوى أخرى، أكانت أوروبية أم روسية أم صينية”، بدأ ترامب، بما يمثّل مرة جديدة، يعمل على تفكيكه، الأمر الذي يلقى ممانعة قوية من القوى الامبراطورية في واشنطن، وتلك قصة أخرى لصراع أمريكي داخلي، بين دعاة الانعزال ودعاة الامبراطورية، في مرحلة انتقالية عالمية مفصلية.
نهاية القول: “حيرة” ترامب “ملغومة” لأنها في الحقيقة سياسة مستترة وهادفة، لكنها وللمفارقة أنتجت “حيرة” عربية أيضاً، فهل يحوّل العرب صورة “التهاوش” على “الصيدة”، كما قال أحد كبارهم، من العسكري والإرهابي إلى السياسي فقط لتحقيق ذات النتيجة؟ أم يعترفون بنصر سورية ومحورها الكامل ونقطة على السطر؟ وإذا حصل ذلك، فهل يكون هذا الاعتراف بالمجمل، عن طريق جامعتهم، أم بالمفرق أي كل دولة على حدة؟، ثم هل يتمّ هذا الاعتراف بسرعة أم ببطء؟، قبل القمة العتيدة أم بعدها؟، أسئلة كثيرة لتابعين حائرين عاجزين، وجدوا أنفسهم فجأة متروكين في العراء، وعليهم أن يفعلوا شيئاً ليستلحقوا أنفسهم ويستروا عريهم السياسي بعد أن أصبح عريهم الأخلاقي من الضخامة بحيث لا يمكن أن يستره سوى الموت، ولا شيء غيره.
أحمد حسن