بطون وعقول و”البادئ أشطر”
نبدو اليوم في مرحلة تدفّق غير مسبوق للرؤى ووجهات النظر بشأن البلورة المناسبة لأفقنا كبلد خارج للتو من محنة صعبة.. فثمة من أطلق العنان لاستشرافات بعيدة المدى وصلت إلى حدود الاستثمار في اقتصاديات المعرفة ومخرجاتها التقنية المعقّدة، فيما كان آخرون أكثر واقعيّة ببقائهم في مضمار الميزات النسبية والمطلقة المنحدرة من منشأ طبيعي في معظمها بحكم الموقع والجغرافيا.. وفي الحالتين يبدو الطرح ذا خاصيّة سورية بحتة، إلّا أن للحاجة حضورها دوماً في سباق الأولويات، خصوصاً في ظرف استثنائي وغير عادي كظرفنا الراهن.
فقبل التطلّع نحو إعلان أنفسنا كـ”منصّة” لإنتاج التكنولوجيا العالية ومخرجات الصناعة الرقمية، يبدو علينا الاكتراث أولاً بما حظينا به من موارد خام، تبدو واعدة فعلاً بإطلاق ملامح بحبوحة حقيقيّة في بلادنا على مستويات أفقية لا عموديّة من النوع الذي يحدث تشوها حقيقياً في توزّع الثروات.
فلعلّها من المفارقات القاسية بوقعها أن تخلو صادراتنا من أي منتج حيواني مصنّع مثلاً، ونحن البلد الزراعي الغني بموارده وصاحب الصيت الذائع بخصوصياته ومفردات بيئته الزراعية بشقّيها النباتي والحيواني، بل نستورد ما هو أقل جودة مما يمكن أن ننتجه.
بكل الأحوال لا يمكن تجاهل أي من المطارح المتاحة لإحداث نقلات حقيقية على مستوى البنية الإنتاجيّة بعمومها، لكننا بأمسّ الحاجة لإعادة مطارح إنتاج كفايتنا الغذائية، بعد التشوهات التي لحقت بها على خلفيّات الأزمة والحرب.. كما أننا بحاجة إلى ترميم فجوات الاحتياطي النقدي، والمصدر رقم واحد المرشّح لهذه المهمة هو منتجات التصنيع الزراعي الذي مازال مشهدنا الاقتصادي شديد الفقر بها، وهذا واقع يفرض نفسه على لوائح الاستدراك السريع.
لدينا رساميل كبيرة تتحضّر حالياً للنزول إلى ميدان الاستثمار، ويتحيّن أصحابها الفرص لالتقاط ما يتكفّل منها بتأمين العائدات المجزية والسهلة، وهذه غالباً تكمن في مطارح دورات رأس المال السريعة وقليلة المخاطر.. إلّا أن ثمة مسؤوليات جديدة هي خليط ما بين الاقتصادي والاجتماعي، يجب أن يضطلع بها قطاع الأعمال، في مقدّمتها استدراك الثغرة المقلقة المقيمة بنية متممات ومكملات الإنتاج الزراعي.
لابد إذاً من حل لمشكلة نأي الرساميل الخاصّة عن الخوض في مجال الاستثمار الزراعي وصناعاته، وهنا قد يكون من الحكمة بلورة “ائتلاف” رجال أعمال لتأسيس شركة مساهمة، يتوزّع المسؤوليات، ويكسر حاجز الجبن والخوف من بطء دورات رأس المال.. لتعنى الشركة بإقامة “قرية تصنيع زراعي” أو مجمع متخصص، يتضمّن معامل عصائر وكونسروة وأجبان وألبان، ومراكز غربلة وتعليب وتغليف، وتنبثق عنه شركة تسويق داخلي وخارجي.. فمن شأن مثل هذا المجمّع أن يكون مركز تحفيز حقيقي للنشاط الزراعي، عبر ضمان عدم حدوث الاختناقات والكساد، وتعزيز الجدوى في أذهان أصحاب الحيازات الزراعية التي هُجّرت تحت ضغط الفشل المتكرّر وعدم حصاد عائدات مجزية.
ولعلّه من المجدي ربط منح تراخيص الاستثمارات الريعية والخدمية، بحصص استثمارية في مجال التصنيع الزراعي، ولو بنسبة 10 بالمئة.. فهذه النسبة على ضآلتها من شأنها أن تحقق اختراقاً فعلياً في المشهد الإنتاجي على مستوى التصنيع الزراعي، ونحن على يقين من أننا سنكون أمام متوالية صاعدة في نمو هذا القطاع، بعد أن نلمس جميعاً، ويلمس المستثمرون أن ثمة دسماً حقيقياً تحتضنه هذه المساحة المهملة من اقتصادنا المتنوّع ومتعدّد المصادر.
ولا بأس بعدها أن نتجه لاستثمار المهارات المعرفيّة التي تجري الإشارة إليها حالياً، فالاستثمار في التكنولوجيا الذكية هو بنية فوقيّة، تتطلّب إنجاز متعلّقات القاعدة الإنتاجية أولاً، وهذه هي طبيعة العلاقة بين البطون والعقول، فلنملأ البطون كي تعمل العقول.
ناظم عيد