العدائية الاقتصادية: إرث وممارسة
باسل الشيخ محمد
تميز القرن الفائت بكون العقوبات الاقتصادية متمماً لحزمة الضغوطات التي تمارسها بعض الدول على دول أخرى، تبدو الصورة كما لو أنها زيادة في عدد الطلقات ونقص في عدد القطع المعدنية.
ولعل هذه الظاهرة ليست جديدة بحد ذاتها، إذ إنها تعود إلى العام 432 قبل الميلاد حينما فرضت أثينا أول عقوبات اقتصادية في التاريخ على جزيرة ميغارا لتحالفها عسكرياً مع أعداء أثينا، وقد شهد القرن الماضي فرض الولايات المتحدة لعقوبات اقتصادية لما ينوف على 115 مرة، هذا بعد أن كانت “عصبة الأمم” قد فرضت عقوبات اقتصادية على إيطاليا عام 1935 بعد غزوها لأثيوبيا.
وبعد أن ورثت الأمم المتحدة مكانة عصبة الأمم قنن مجلس الأمن العقوبات الاقتصادية في المادة 41 التي تنص على أنه “لمجلس الأمن أن يقرر ما يجب اتخاذه من التدابير التي لا تتطلب استخدام القوات المسلحة لتنفيذ قراراته، وله أن يطلب من أعضاء الأمم المتحدة تطبيق هذه التدابير، ويجوز أن يكون من بينها وقف الصلات الاقتصادية والمواصلات الحديدية والبحرية والجوية والبريدية والبرقية واللاسلكية وغيرها من وسائل المواصلات وقفاً جزئياً أو كلياً” دون أن يذكر بالمقابل ما هي الإجراءات المتخذة ضد من يفرض عقوبات اقتصادية دون العودة إلى الأمم المتحدة قبل فرضها، ولا أدل على ذلك من قول المؤسسة الوطنية للصناعيين الأميركيين أن 42 بالمئة من سكان العالم يرزحون تحت وطأة العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية على بلدانهم.
من تلك العقوبات الاقتصادية ما كان محدود التأثير كما كانت الحال عليه في فنزويلا، ومنها ما كان شديد الوطأة كما كانت الحال عليه في العراق خلال العقد الذي سبق غزو ذلك البلد. ومع تطور الرؤى السياسية تطورت أشكال العقوبات ليخرج اصطلاح “العقوبات الثانوية” إلى الوجود، وبرغم أن هذا الاصطلاح غير واضح المعالم إلا أنه يشير إلى عقوبات اقتصادية تضاف إلى عقوبات أخرى سابقة لتشديد الوطأة على الدولة المستهدفة، كما تشرك العقوبات الثانوية عدداً من الدول إلى جانبها في محاولة لإغلاق المنافذ الاقتصادية للدولة المستهدفة، مثال ذلك اعتماد الأمم المتحدة لعقوبات ضد كوريا الديمقراطية تسع مرات منذ عام 2006، صحيح أن الإجراءات التي اتخذتها الأمم المتحدة قدو سعت نطاق العقوبات إلا أن قرارها لم يكن قادراً على إشراك جميع الدول، إذ تتمتع بيونغ يانغ بالعديد من العلاقات القوية مع الدول الإفريقية، الأمر الذي حدا إدارة دونالد ترامب على ممارسة ضغوط دبلوماسية على الدول الإفريقية وغيرها من الدول للالتزام بهذه العقوبات، كما أن الرفع الأخير للعقوبات الاقتصادية الأمريكية ضد السودان تمر بطلب التزام الأخيرة بقطع العلاقات مع كوريا الديمقراطية.
إرث الأطماع
في عالمنا الذي يعتبر فيه كل طرف نجاح طرف آخر تهديداً له كانت الصين هي ما يؤرق صانع السياسة الأمريكي، هذه النظرة هي ما يؤمن به ترامب عندما أشار إلى تراجع مستوى الميزان التجاري الأمريكي بحدود 800 مليار دولار قائلاً إن نجاح الصين ساهم في خسارة 400 مليار دولار منها.
وفي حين يتمركز الوفر العالمي لدى مصارف الرأسمال الغربي وخاصة في الولايات المتحدة فإن اتفاقيات التبادل التجاري الحر جعلت من العالم سوقاً مفتوحاً أمام الدول التي ترغب بتحقيق رخاء اقتصادي لمواطنيها، لم يلبث النجاح الصيني أن لاقى رواجاً في الأسواق الغربية نظراً للاهتمام بجودة المنتجات تزامناً مع توفيرها بسعر معقول، الأمر الذي حدا العديد من الشركات الغربية على افتتاح فروع لمصانعها في الصين حيث تتوفر اليد العاملة الرخيصة. لكن يبدو أن المعادلة الصفرية (نجاح طرف يعني خسارة طرف ما) هي القاعدة الأساسية التي يحاول الرأسمال الغربي أن يسير على نهجها، على الرغم من الوعود والأدبيات الليبرالية وعلى الرغم أيضاً من وجود معادلة (الجميع رابح) والتي يبدو أنها قناع ليبرالي من أدبيات الليبرالية الأمريكية، فهي أول من نادى بفتح الأسواق أمام التبادل الحر، وأيدها البنك الدولي في ذلك، غير أن هذه العبارات قد لا تكون بمعناها اللفظي بقدر ما تعني في حقيقتها “فتح أسواق العالم لنا، لنا وحدنا”. أهم دليل على ذلك جاء في السابع من نيسان 2018 عندما قال ترامب “إنّ واشنطن لا تحتاج إلى حلفاء يملكون مصالحهم القومية الخاصة، بل على جميع الحلفاء أن يسيروا وفق مبدأ هيمنة الولايات المتحدة أحادية القطب. وأيّ أحد غير مرتاح لهذا الأمر فعليه أن يهبط إلى دائرة الذين يتم تصنيفهم بأنّهم غير مرغوب بهم في البيت الأبيض”.
وأمام هذه المعادلة التي تقتضي وجود غالب ومغلوب، يبدو أن للعقوبات الأمريكية على الصين رد فعل مماثل على الصادرات الأمريكية. بات العالم إذن أمام صراع بين “مصنع العالم” و”مصرف العالم” كوصف لدولتين عضوين في النادي النووي. إلى الآن حقق الاقتصاد الصيني 33 ترليون دولار مقابل الولايات المتحدة التي حققت 31 ترليون دولار، يرجح مراقبون تولي الصين زعامة الاقتصاد العالمي بحلول العام 2025 أو بعد ذلك ببضع سنين، في حين يقول آخرون إن ارتفاع سعر صرف الدولار وسيطرة المصارف العالمية على التعاملات النقدية – بما في ذلك اليوان- سيكون ميدان الحرب الجديدة.
ومهما كانت السيناريوهات المقبلة فإن وباء الخسارة سيطال الجهات التي لم تكن طرفاً في هذه الحرب التجارية، من ذلك أن غرفة الصناعة التجارية الصينية توقعت لحاق الضرر بالشركات الأوروبية نظراً لاضطراب عمل شركاتها العالمية، مضيفة أن 45 من الشركات الأوروبية قلقة من الرسوم التي فرضتها الولايات المتحدة على السلع الصينية. ومن شأن هذا الاضطراب وحده أن يساهم في تباطؤ وتيرة الاقتصاد العالمي وتقلص عدد الوظائف وتأخير تحديث المنتجات، وهو ما دفع بسبع عشرة بالمئة من الشركات –إلى الآن- إلى تأجيل استثماراتها بسبب هذا المناخ التجاري المتوتر.
هذا في أوروبا، فكيف هو الحال إذن في الدول النامية التي لا يبدو أن بمقدور صناعاتها أن تنجح –على الأقل- خلال الفترة المنظورة.