“بدائع تعليم آلة البزق”.. أساليب تعليمية متطورة
ارتأى الفنان السوري العالمي سعيد يوسف بعد سنوات التجول بدول العالم والعزف على مسارحها وتأليف أجمل المقطوعات أن يخطّ بيده هذا الكتاب الفريد من نوعه، والذي يُبنى على رسم النوتات الموسيقية وشرحها وأدخل ضمن متن الكتاب الكثير من التمارين الموسيقية وتوقف عند المقامات الشرقية والعلامات التي تمّ تصويرها عن نوتاته، فبدا ذاكرة موسيقية حقيقية، لاسيما أنه أضاف شروحات بيانية لآلة البزق وكيفية استعمالها، بغية إبقاء الآلات التراثية الحية واستمرارها في مزاحمة آلات الغرب الإلكترونية.
استمرارية البزق
وأوضح المؤلف العازف العالمي سعيد يوسف بأنه لم يجد في المكتبات العربية كتاباً لتعليم البزق بشكل علمي ويتضمن أساليب متطورة في تعليم العزف، فبقيت الفكرة تراوده إلى أن أتم معلوماته من خلال قراءاته لمكتبته الخاصة، وعلاقته بالفنانين لاسيما عازف البزق اللبناني المخضرم محي الدين بعيون وأمير البزق الراحل محمد عبد الكريم ومحمد مطر، إذ يعود لهم الفضل لاستمرارية هذه الآلة وديمومتها ولتأخذ دورها في أسرة التخت الشرقي في الفرق العربية والشرقية. كما يمثل الكتاب شغف عشاق آلة البزق المهتمين بخصوصيتها ويعد مدرسة للمبتدئين الذين يودون تعلم العزف عليها.
اللحن الراقص
بدأ يوسف بتاريخ آلة البزق حيث كانت أوتارها كلها من نوع واحد مصنوعة من الفولاذ، ولكن بعد تقدم العازفين أضافوا إليه وتراً غليظاً ملفوفاً بالقصب (الباص) ليتلاءَم مع الوتر الرفيع ويتوافق معه، وبيّن المؤلف أن هذا الوتر الغليظ يعطي جمالية للقطعة الموسيقية، كما استخدمه العازفون كقطعة موسيقية راقصة موزونة أو غير موزونة، وتابع تفاصيل الدرجات الموسيقية بالطريقة الإبراهيمية، ووصف شكل البزق بأنه قريب إلى العود فيشبهه بقصعته الدائرية الأصغر من العود ويشبه الغيتار بطول زنده إلا أنه أرفع من زنده، ويتألف من ديوانين كاملين أوكتافين، ويعود ظهوره إلى الألف الثاني قبل الميلاد وكانت تسميته” العود ذو العنق الطويل”.
وتشير النقوش على جدار أحد المعابد الفرعونية إلى وجود فتاة فرعونية تعزف على آلة تشبه البزق في مدينة ظيبا في مصر، وهناك مقولة تقول بأنه وجد في الألف الأول قبل الميلاد في بلاد فارس إلى جانب آلة شعبية أخرى تسمى “تار”، بينما مقولة ثالثة تدل على أن آلة البزق تعود إلى الحقبة الثانية التي تلت ظهور الآلات البدائية في الهند مثل آلات النفخ التي تصنع من قرون الحيوانات والقصب، وبعض أشكال الطبول التي تصنع من جلود الحيوانات، وبعض المؤرخين يقولون: إن الستار الهندي الحالي ليس إلا بزقاً مع تغير بسيط في الشكل، وحمله الهنود الرحل من منطقة باكستان إلى المناطق المجاورة والبعيدة عن بلاد فارس واليونان وتركيا ودول آسيوية أخرى والقفقاز وأذربيجان ثم انتشر في بلاد الرافدين والدول المطلة على حوض البحر العربي المتوسط ولبنان وسورية وفلسطين.
وينتقل المؤلف إلى المنعطف الهام ودخول البزق حياة الغجر، إذ اتخذوه وسيلة لجلب الروّاد الذين يترددون إلى مضارب الخيم ليستمتعوا بغناء ورقص الجميلات وبدأ بمرافقة الطبلة والرقص ووصلات الغناء الشعبي الفلكلوري.
ومن الغجر إلى اليونان إذ انتشرت هذه الآلة مع الآلات الوترية هناك وسمي ببوزوكي، ومن ثم انتقلت إلى تركيا وسُميت ببوذوق، وكلمة بو في التركية تعني الذوق، ومن ثم اتخذ التسمية النهائية الموجودة في قواميس اللغة العربية البزق.
البوزوكي
تطور البزق وفق ثقافة الشعوب فاليونانيون أضافوا إليه وترين فأصبح البوزوكي اليوناني يحمل أربعة أوتار مزدوجة لكنها خالية من أرباع الأصوات مثل الغيتار الغربي مع دساتين نحاسية، وظهرت أنواع متعددة من الساز في تركيا المنبثق عن البزق بإضافة وتر ثالث مع دساتين أقل. وفي منطقة شمال العراق صنعوا الطنبورة وهناك من يقول إنها صنعت في جبال طوروس. ليخلص المؤلف إلى أنها آلة قديمة تعود إلى تاريخ ظهور العود والقانون.
البزق في أمهات الكتب
عاد المؤلف إلى أمات الكتب العربية القديمة ليدوّن بعض أقوال علماء العرب فبعد الفارابي جاء الآموري إمام أهل عصره في ضرب العود ويعرف في كتابه”حكم الوتر” الآلات الثنائية الأوتار ويعتقد المؤلف بأنه يقصد البزق أو التار أو الطنبورة أو الساز. ويستحضر قول ابن زيله في كتابه” الكافي في الموسيقا” بأن الآلات الموسيقية على أقسام، فمنها ذات أوتار ودساتين مشدودة على مواضع النغم لتنتقل الأصابع عليها في اتخاذ النغم مثل العود والطنبورة. كما استحضر آراء بعض الباحثين الأجانب مثل هيكمان وبأن العود يطلقونه على مجموعة آلات وترية منها الساز والطنبورة والتار.
ومن تاريخ البزق إلى سرد تعليمات ما قبل التعليم تتعلق بكيفية الجلوس وكيفية مسك البزق والريشة.
ومضى المؤلف في بقية الفصول بالاعتماد على توصيف الصورة وتحليلها معتمداً على الشكل المرسوم بيده ابتداءً من تكوين المدرج الموسيقي إلى المدرج الموسيقي والأسطر الإضافية وأسماء العلامات إلى شكل البزق وأسماء أوتار البزق وطريقة الدوزان، إلى علامات التحويل وكتابتها على المدرج والتوافق في الأصوات والمسافة الصوتية لكل علامة، وإيضاح الشرح بالمقاربة بين السلم المنزلي والسلم الموسيقي، وأضاف جداول منها جدول بأشكال العلامات الموسيقية وعلامات الصمت، ليصل إلى المحور الأساسي بالضرب أو العزف بوساطة الريشة وكيفية قراءة العلامات الموسيقية، كما رسم المؤلف جملة من التمارين المتفرعة عن العلامات الموسيقية وتمارين على العلامات المنقوطة وبعض السكتات، لينتقل إلى الإكوارات التوافقية وعن سلم الماجور الموافق للعجم، وسلم المينور الموافق لمقام النهوند.
ويتضمن الكتاب تمارين سلالم المقامات الشرقية مثل سلم مقام الراست وسلم مقام الحجاز كار وسلم مقام النكريز وسلم مقام العجم عشيران وسلم مقام راحة الأرواح وغيرها وعرض نماذج من مؤلفاته مثل فكرة وظلال وفتنة وسلام وحنيني.
جاء الكتاب بمئة وخمس وأربعين صفحة من القطع الكبير وقد صمم لوحة الغلاف الفنان جواد مرد، وكتب الإعلامي إدريس مراد الذي ساهم في إصدار هذا الكتاب كلمة على الغلاف اختزلت السيرة الذاتية للعالمي سعيد يوسف وأجمل ما كتبه”وعلى طيلة زمن الأمسية التي تتعدى الساعة أحياناً، يمر على أكثر من عشرين مقاماً عبْر تقاسيم تحمل تفاصيل صغيرة ودقيقة، وهذا الأمر في غاية الصعوبة ويعجز عنه الكثير من العازفين”.
ملده شويكاني