ثقافةصحيفة البعث

“النحل والناس”.. والحلاوة والنور

 

لا يعد “النحل والناس” –تأليف نعوم لويريش وترجمة ميهوب كشي الصادر عن الهيئة العامة للكتاب- كتاباً مدرسياً عن تربية النحل ولا بحثاً طبياً، كما أنه ليس عن مجموعة من الأعشاب بل إنه مزارع النحل “المناحل” التي يمكن أن تكون مركزاً طبيعياً ومصدراً حقيقياً للصحة والسعادة.
“بدلاً من القذارة والسم اخترنا أن نملأ خلايانا بالعسل والشمع، وهكذا نمد الجنس البشري بأنبل شيئين هما: الحلاوة والنور”
بهذه الكلمات يبدأ المؤلف كتابه برغبة منه في توظيف خبرته وملاحظاته حول النحل، ووجهات نظر حول الدور المهم الذي يؤديه في حياة الإنسان، ولتوضيح الفوائد الكثيرة التي يجلبها. فهو يأمل أنها ستساعدنا ليس بغرس الحب في نفوسنا لتلك الصديقات الصغيرات المجنحات المساعدات للبشرية فحسب، بل من أجل الحصول على كثير من المنتجات، ولتقودنا إلى مزارع النحل الواسعة بقصد العلاج والوقاية.
إن العمل الساحر في خلية نحل ما يعطينا سعادة جمالية كبيرة فاستهلاك العسل والاستعمال الخاص للسم، الغذاء الملكي، غبار الطلع، البروبوليس، سم النحل، وعصارة اليرقات الذكرية، كلها حلقات في سلسلة من عوامل مهمة لصحة الإنسان وإطالة حياته.
إن العمل الفتان في مزارع النحل ليس فقط من أجل التأثير المفيد على صحة النحّالين وبخاصة على جهازهم العصبي، ولكنه يساعد أيضاً كثيرين منهم على نسيان مشكلاتهم واعتلال أجسادهم. يتحدث المؤلف قليلاً عن بعض هذا الشعب المتفوق الذي ستكون حياته غير ممكنة من دون النحل، إن تلك المخلوقات المثيرة للاهتمام لديها قوة سحرية كالمغناطيس، تمسك بكل إنسان يعرفها، “النحالين” ولذلك فإنهم لا يستطيعون الكفّ عن الشعور بالصداقة القوية مدى حياتهم، وهذا الحب للنحل يسلّم يداً بيد إلى الأولاد والحفدة، وقد توارثت بعض الأسر تربية النحل من الآباء والأجداد.
إن الجغرافيين يحقّ لهم أن يكونوا معجبين بأنفسهم، فليست هنالك مساحة صغيرة بيضاء على الخريطة، لكن البيولوجيين وهم أناس نذروا أنفسهم لدراسة حياة وعادات وعمل طائفة النحل، وفي الوقت نفسه هم لا يستطيعون التفاخر بذلك لأن الدراسة في حاجة إلى كل أسرارها، ولقرون عديدة وعقل الإنسان المحب للبحث والتحقيق مازال يحاول حل اللغز عما يفعله النحل على الأزهار وفي الظلام داخل الخلية. في الحقيقة، تغنى الكتّاب والشعراء بمزارع النحل، أما في وقتنا الحاضر فالمهندسون الزراعيون وأصحاب البساتين ومربو النحل قد لاحظوا أن الأزهار والنحل لا يمكن لأحدهما الاستمرار من دون الآخر وأن وجودهما مرتبط بعضه ببعض بشكل وثيق. ولا ينظر إلى النحل في الوقت الحاضر كمصدر للعسل وبعض المنتجات الأخرى فحسب بل ككائن يطير ملقحاً أزهار البساتين المثمرة والمروج والحدائق، وقد تبين أن عمل النحل في التلقيح هو أكثر فائدة من 8-10 مرات من فائدته لجمع العسل أو أي منتج آخر، لذلك ينصح كثير من الناس بتربية النحل وخاصة أولئك الذين يعانون من فرط تهيج الجهاز العصبي وجرحى الحرب والمصابين بآفات جسدية أو المتقاعدين المسنين إذا أن ذلك أفضل شكل للمعالجة بالعمل لأن العمل في المنحل يكون عادة في أجمل أشهر السنة الربيع والصيف.
ويأمل المؤلف في كتابه “النحل والناس” أن يساعد هذا الكتاب في زيادة عدد محبي النحل، كي يسهموا من خلال فعالياتهم في زيادة إنتاج العسل والمواد الأخرى وفي زيادة إنتاج الفاكهة والبذور ليمنحهم الصحة والسعادة.

مجتمع الأسرار
وجاء في كلمة المترجم: من منا لا يرغب في أن يعيش في أسرة مثالية، الآباء فيها يحرصون على الأبناء، والأبناء يطيعون الآباء، فمظاهر الاحترام والطاعة والحب متبادلة بين الجميع.
من منا لا يحب أن يعيش في مجتمع لا يعرف التعب أو الكلل، مجتمع لا مكان فيه لمن لا يعمل، مجتمع حكيم يعرف متى وكيف يجني قوته، كما يعرف كيف يقتصد قرشه الأبيض إلى يومه الأسود، إلى يوم الشدة والقحط، إلى يوم لن ينفع فيه الندم. إنه مجتمع الأسرار مجتمع لغته المشفرة قد تكون رقصة دائرية معبرة أو جرة قدم يبوح سراً مما علّمه الله، مجتمع شعاره العمل الدؤوب والمحافظة على الذريّة والديمومة.
ياله من مجتمع غريب عجيب، لاينظر الفرد فيه إلى يده، أو إلى الحائط لمعرفة الوقت، فساعته أكبر من أن يزين بها معصم أو تعلّق على جدار، إنها الشمس تلك الساعة الكبيرة، الساعة التي يعرف بوساطتها التوجه إلى الاتجاهات كافة. حقاً إنه عالم سحري هذا المجتمع البخيل الكريم، مجتمع أوامره وقوانينه أنثوية دكتاتورية، إنها أوامر الملكة تلك المخلوقة العجيبة ذات الشكل اللطيف تمشي مهيبة جليلة إنها ربة الأسرة وأم الجميع تصدر أوامر ومراسيم لانقاش فيها، أوامر ليست مكتوبة على ورق البردي أو على جلد غزال أو على صفحات أوراق المطابع الحديثة، بل إن كلماتها مكتوبة بمداد سخرية تترجم إلى سلوك وأفعال عبر هوائيات وأطباق معقدة التركيب.
هذا المجتمع المثالي هو مجتمع النحل النبيل، المجتمع الذي يضحي فيه الفرد بنفسه حتى الموت دفاعاً عن مملكته، وحباً بديمومة ذرّيته، فالفرد في خدمة الجميع والجميع في خدمة الفرد، فاعذر-أخي القارئ- عشقي هذا، فأنت مدعو لقضاء يوم من أيام نيسان الجميلة، تجلس فيه أمام منحلٍ تراقب خروج النحل وعودته محمّلاً بالأصفر والأحمر والأبيض، ومثقلاً بالرحيق يتهاوى على مهابط الخلايا أفواجاً أفواجاً مجتازاً حرّاس البوابة، يفرغ حمولته في أقراص شمعية ذات أشكال هندسية بديعة.
وكم سيكون حظك سعيداً إذا ما صادفت طرداً يخرج مودّعاً ليكون أسرة صغيرة مستقلة سرعان ما تكبر، ملكتها عذراء تنتظر فارساً يزفها في عرس ملكي أخّاذ. ولو حاول العالم مجتمعاً أن يصنع نقطة واحدة من العسل الطبيعي لعجز عن ذلك حتماً، فالله سبحانه وتعالى خصّ النحل وحده بجمع وإنضاج رحيق الأزهار وتحويله إلى عسل دون غيره من المخلوقات قاطبة، ومن ينظر إلى شهد العسل فلا بد من أن يعلّق على صدر كل نحلة وسام الشرف لأنهن مهندسات حقيقيات تسحرك العيون السداسية وهي تحتضن قطرة العسل تلك اللؤلؤة النادرة.
جمان بركات