ثقافةصحيفة البعث

“النفق” لأرنستو ساباتو.. مأساة الذات المُنعزٍلة

 

“في أعلى اللوحة من جهة اليسار، وعبر نافذة صغيرة يلوح منظر صغير وبعيد، منظر شاطئ منعزل، وامرأة تنظر إلى البحر وكأنها تنتظر شيئاً ما، ربما كان نداء خافتاً بعيداً، كان المنظر يوحي برأيي بوحدة قلقة ومطلقة.
ما من أحد تأمل هذا المنظر، كان الرواد ينظرون إليه عرضاً، كما لو أنهم أمام أمر ثانوي، أو زخرفي، وباستثناء شخص واحد، يبدو أن أحداً لم يدرك، أنه يمثل أمراً جوهرياً.
في يوم الافتتاح وقفت فتاة مجهولة أمام لوحتي طويلاً، وبدت أنها لا تعير اهتماماً، إلى المرأة العجوز التي تتصدر اللوحة وهي تتأمل صبياً يلعب. وعندما كانت مستغرقة في منظر النافذة الصغيرة، تأكدت أنها كانت منصرفة عن العالم الشره لا ترى الناس الذين كانوا يمرّون أو يتوقفون أمام اللوحة”.
هذا الفهم والقدرة على الدخول إلى أعماق اللوحة أثار القلق في نفس صاحبها كان النداء الخفي لذاته المذعورة، وأما مغادرتها المكان فقد تركه نهباً لمشاعر متناقضة هي مزيج من الخوف والتوتر والحزن، بل إنه بات يتردد على معرضه يومياً على أمل ظهورها ثانية، لتفرض سيطرتها على تفكيره طوال الأشهر التالية للمعرض يطارد خيالها من مكان إلى آخر، وينتظرها في أماكن يظن أنها لا بد ترتادها، من صالات عرض وأسواق وسواها، حتى أنه صار يفتش عنها في الشوارع.

غرور التواضع
لن تكتسب الرواية فرادتها لمجرد كونها تعرض لجريمة اقترفتها يدي رسام، لكنها تفعل حين يسبغ الكاتب على شخصية البطل هذه التوليفة من الصفات فهو الفنان المبدع المنعزل العاشق المهووس والمجنون الذي يشعر بالوحدة وتسيطر عليه مشاعر الخوف والريبة من الجميع، وفوق كل هذا ممتلئة بالأنا “ليس في وسعي أن أقول شيئاً عن الغرور فأنا أعتقد أن أي إنسان لا يخلو من هذا الحافز البارز للرقي الإنساني، ويثير فيّ الضحك أولئك السادة الذين يدعون تواضع آينشتاين، أو من هم على شاكلته، وجواباً على ذلك أقول: من السهل على المرء أن يكون متواضعاً عندما يكون مشهوراً، أعني أن يتظاهر بالتواضع، وحتى عندما يتصور أنه لا وجود للغرور البشري إطلاقاً، سرعان ما يتكشف الأمر عن صيغته الأكثر دقة.. غرور التواضع”. حتى أن الكاتب استهل حكايته باعتراف أو تعريف الرسام بنفسه على أنه القاتل هكذا فقط وبكل زهو يقول:”سأكتفي بالقول إني خوان بابلو كاستيل، الرسّام الذي قتل ماريا إيريبارني، أظن أنّ المحاكمة ما تزال ماثلةً في ذاكرة الجميع، ولا حاجة لإيضاحاتٍ أوفى عن شخصي”.

غرابة وتعقيد
بقي كاستيل يلاحق طريدته طويلاً حتى حدثت المعجزة ورآها صدفة ولأنه شخص شديد الخجل فقد كان أعد الكثير من السيناريوهات لبدء حوار معها، للوصول إلى غايته وسبر أغوارها، الغاية التي ربما تشفي توقه لاكتشاف ذاته وأناه، سوف يدخل الاثنان في علاقة شديدة الغرابة والتعقيد وكثير من الحوارات والنقاشات الحادة التي تبدو وكأنها تظهير لنفسيته الغريبة وتركيبته المعقدة:
– إنك تفكرين كما أفكر.
– وبماذا تفكر..؟.
– لا أدري ولا استطيع الإجابة على هذا السؤال، وبالأحرى يمكنني أن أقول إنك تشعرين كما أشعر.. كنت تتأملين ذاك المنظر، كما لو أنني أنا مكانك أتأمله لا أرى بماذا تفكرين، كما لا أدري بماذا أفكر أنا أيضاً، لكنني أعلم أنك تفكرين كما أفكر.
سيتفق الاثنان على لقاء يتكرر سنعلم أنها تدعى ماريا وستستحوذ على تفكير بطلنا، سوف يشعر أنها تتلاعب به، يحبها ويكرهها في آن معاً، وتنتابه نوبات الغيرة من زوجها الضرير، ويسعى للسيطرة على كل تفصيل في حياتها، الأمر الذي ينتهي به إلى قتلها بطريقة وحشية وتسليم نفسه للشرطة ودخول السجن بكل رضى ليكتب حكايته مع اللوحة والفن، وماريا وزوجها الضرير الذي نعته بالأحمق حين أخبره أن ماريا تخونهما هما الاثنان، سيدخل السجن ويجلس طويلاً يفكر ويمعن التفكير في معنى الكلمة ولن يصل إلى أي تفسير سوى أنه يستكين ويعول على شيء واحد: “يمكنني على الأقل أن أرسم، وإن كنت أظن أن الأطباء سيضحكون من وراء ظهري سخرية، كما كانوا يضحكون أثناء المحاكمة، عندما تحدثت عن منظر النافذة. كان ثمة مخلوق واحد فقط يفهم رسومي، بينما لا بد وأن هذه اللوحات ستؤكد لهم أكثر فأكثر وجهة نظرهم الغبية. وهكذا ستكون جدران هذا الجحيم يوماً بعد يوم، أشد صلابة وأشد إحكاماً”.

معنى الكتابة
لعل الرواية تبدو في حد ذاتها بسيطة ولا تمتلك تلك الحبكة القوية وهي أيضاً لم تصدمنا بالنهاية التي وصلت إليها، بل لعلها صدمتنا بالحكاية العادية التي قدمتها، هذا في ظاهر الأمر لكنها في حقيقتها؛ وقد غصّت بالعديد من الأسئلة حول جدوى الحياة ومعناها، هي سبر لدواخل النفس البشرية حين تفقدها العزلة عن الآخر كل قدرة على التفكير المنطقي، وتدخل في نفق سوداوي خال من أي مبدأ أخلاقي وهو رد الفعل على تدني أخلاقيات العصر، الذي يدفع إلى نوع من بحث عبثي عن الكمال المطلق أو أنها في حقيقة الأمر هي التجسيد الفعلي لكلمات قالها الكاتب يوماً في جدوى الكتابة ومعنى الحياة: “أنا أكتب كي لا أموت، كي أبحث عن معنى للوجود”.
أرنستو ساباتو الكاتب الأرجنتيني الذي عاش مئة عام بالتمام والكمال، لم يترك وراءه سوى ثلاث روايات هي على التوالي “النفق” و”ملاك الجحيم” ثم “أبطال وقبور”.
بشرى الحكيم