ثقافةصحيفة البعث

مرايا الظلال القادمة.. خطوة للأمام في عوالم القصيدة العربية

بلغة سلسلة وأسلوب رشيق ومتوازن، يقوم الشاعر والكاتب ثائر زين الدين بإعادة صياغة ملامح الحالة الشعرية العربية، بدءا من تخوم العصر الجاهلي-المسمى ظلما بهذا الاسم- حتى القصيدة الحديثة، مارا على الجماليات والتوصيفات والاستنتاجات الشخصية أيضا، في أمر شائك وشيق كالشعر، فالشاعر الذي فيه أو الذي هو، يعلم تماما كيف يصوغ قصيدة جميلة، وكيف يلتقط مفاتيح جمالها، الأمر الذي جعل كتابه “مرايا الظلام القادمة” 2018، الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، أكثر غنى وتنوعا في تقريب وجهات النظر المختلفة، تلك التي راحت تحرف الشعر، لا كحكاية يسردها، بل كرد عام على الواقع الصعب الذي يمرّ به هذا الفن العظيم.
الكتاب يستند على تسع دراسات نقدية للشاعر، اهتمت في مضامينها بالجوانب الفنية للشعر المعاصر والحديث وما طرأ من تطورات جمالية على القصيدة العربية، وربما أهم ما تتصف به تلك الدراسات، هو التكثيف والإيجاز، ففي واحدة منها خاض الكاتب في مسألة استلهام العناصر التراثية والأدوات الفنية، التي بدأت تضرب جذورها في الكثير من القصائد العربية، وذلك منذ الثلث الثاني من القرن الماضي حتى الآن، لتصبح واحدة من أبرز السمات الفنية لقصيدة التفعيلة الحرة، ويذهب “زين الدين” في مجموع تلك الدراسات، إلى العمل أيضا بإيجاز وتكثيف على عدة مشاريع كانت قد بدأت بالحديث عن تلك الصفات في الشعر العربي، كما فعل “أدونيس” في دراساته التي أجراها وفي أكثر من كتاب على هذه الشأن، إلا أن كاتبنا هنا يذهب نحو التخصيص الجمالي بالكثير من الاستنتاجات التي تربط ما هو جمالي من أدوات فنية، بما هو شعوري وقائم بعوالم القصيدة، تلك التي لم يقصر النقد في دراستها، كجزء من الحداثة الشعرية، وذلك من حيث نشأتها وتطورها وأطروحتها الفنية والجمالية والفكرية، وهي ثلاثة أعمدة، تقوم عليها القصيدة الحديثة، بعد أن تخلت عن الشكل لصالح المضمون، والإيقاع الداخلي الذي يميزها، ويجعلها بالتأكيد خارجة من عباءة القصيدة العربية المعروفة، لكن بحلتها الخاصة، ولغتها المنفردة، خصوصا في تصوير العلائق التي تجمع بين عناصر هذه القصيدة، وعلى هذا فإن المقارنة بين كل من القصيدتين، تتيح للقارئ كما أسلفنا بسلاسة ورشاقة وأيضا بلغة مسبوكة بعناية، معرفة التطورات التي طرأت على فن القصيدة العربية، خصوصا وأنها بما تنتمي إليه، أي الشعر، كان ولا زال هو ديوان العرب، ورغم النظريات العديدة التي تقدمت بأدلة قائمة، على كون ما جرى على القصيدة العربية، ليس سوى واحدة من أشكال المؤامرة التي جاءت على ضرب جميع مرتكزات القوة عندنا –اقصد كعرب- وبالتأكيد الشعر كان أقواها وأجملها، إلا أن هذا الرأي بقي خارجا عن جوانيات الدراسات الشعرية بمعظمها، على اعتبار أن المثاقفة، والترجمات والاختلاط بثقافات أخرى، جعل من الطبيعي أن تواكب القصيدة العربية هذه التطورات ولكن بخصوصيتها هي، الأمر الذي يركز عليه الشاعر “زين الدين” في كتابه الآنف الذكر، معتمدا على حدسه الشعري أولا، في تبويب تلك المتغيرات، ووصفها ثم تقديمها كاستكمال متتابع للدراسات التي أُجريت سابقا على القصيدة العربية ومنذ مدة لا بأس بها.
يقدم الكاتب وبشكل متسلسل العمليات التقنية الفنية التي كانت من أهم عوامل جمالية القصيدة العربية، سواء تلك الكلاسيكية أو الحرة، وهو برصده لجماليات القصيدة بكثير من الإيجاز والتكثيف، سيعمل على استنتاج أهم التطورات التي طرأت عليها ومنها: (الوزن) والذي من أهم العلامات في النقد العربي القديم؛ أيضا (وحدة البيت الشعري) التي كانت واحدة من أهم معايير الجمالية في القصيدة العربية القديمة –وإن كنت أختلف معه بوصفها بالقديمة- ووحدة البيت الشعري، بقيت لزمن طويل، من مقاييس جودة الشعر وإتقانه، وحتى مدى تأثيره في النفس، سيحضر أيضا (جمال اللفظة الشعرية) وذلك في دقة اختيارها وسلامتها، وبعدها عن الخطأ اللغوي والنحو، فالخطأ قبح وخروج من دائرة الأدب، ولذلك مثلا قام “الجاحظ” بتقديم المبنى–أي الشكل- على المعنى، وهو اختلاف لم يزل قائما حتى اليوم في القصيدة العربية، بالنسبة للمعنى، ففي حين يرفضه الكثير من الشعراء العرب، يقيل عليه أيضا العديد منهم، وهذا يعني أن قضية هامة وشائكة كهذه القضية، بقيت غير محسومة، حتى بالنسبة للشاعر نفسه ولحد الآن.
من تلك الجماليات أيضا في القصيدة العربية الكلاسيكية هو:(جمال المعنى ونبله)، وهنا أيضا تحضر فكرة تقديم المبنى على المعنى، فها هو (قدامة بن جعفر) الذي يًعتبر من أنصار تقديم التخييل والصناعة على المعنى، يرى أنه ليس فحاشة المعنى في نفسه مما يزيل جودة الشعر فيه، كما لا يعيب جودة النجارة الرداءة في الخشب!، والمثل هنا مادي بحت، لا يمكن إقامته كحجة فنية تقابل النظرية المقابلة، أي تلك التي تقدم المعنى على المبنى، فها هو “ابن جني” يرى: (أن المعنى أقوى عند العرب، وأكرم وأفخر قدرا في النفوس، وهي تُعنى بالألفاظ بالضرورة، لأنها عنوان معانيها، والألفاظ خدم للمعاني، والمخدوم أشرف من الخادم.
هذا وغيره من المقومات والاستنتاجات المتباينة في قوتها وعلاقتها بالشعر عموما، هي ما سيقرأه المهتم بالشعر، وحتى ذلك القارئ الذي لا يوجد لديه ثقافة حقيقية عن طبيعة الشعرية العربية وأحوالها منذ بدأت بالظهور حتى الآن، ويمكن عموما وصف الكتاب، بالجيد والمشغول بدراية وحسن اختيار للمواضيع، ويمكن أيضا من جهة عمله كمتقفٍ للأثر الأدبي، أن يُصنف بكونه من الكتب التي تعاملت مع الشعر من وجهة نظر خاصة، وقدمت فيه ملاحظات جديدة وشيقة، ستنزل منزلا حسنا في نفس قارئها، لأنها كما قلنا: مختصرة، رشيقة، سلسة، ومكتوبة بلغة تتوارى فيها الشعرية خلف ظلال الكلام، فتمنحه ذلك الألق المضيء والجاذب أو المغري.
تمّام علي بركات