عن العدوان والأخلاق وأميركا
جعفر البكلي
كاتب من تونس
كانت هناك نكتة شاعت عن رئيس أميركي اسمه ويليام ماكينلي. وفحوى النكتة سؤالٌ يُطرح على السامعين: “ما العلاقة بين عقل ويليام ماكينلي وسريره؟”. والإجابة هي: “كلاهما لا بدّ أن يرتبه له أحدهم، قبل أن يستعمله”. كان ماكينلي هذا رجلاً أبيض ضخماً يغلب على محيّاه التجهم والعبوس. وبدت شخصيته غريبة في التاريخ الأميركي، فهو سياسي مغمور، لم يمتلك الخبرة أو التجربة الكافية ليشغل منصب رئيس الولايات المتحدة، لكنه وصل إلى البيت الأبيض بسبب غياب منافسين جديين في السباق الانتخابي، وبفضل دعم صديقه المليونير مارك هَنّا الذي تكفل بتمويل حملته كلها، من جيبه الخاص. ولمّا كان ماكينلي من فئة الرؤساء الذين لم يهيّئوا أنفسهم بجدية لما يتطلبه موقعهم الرفيع من المسؤوليات، فقد ظلّ الرجل أسير مستشاريه يوجّهونه حيث يشاؤون. وكان الرئيس من ذلك النوع الذي يحب أن يتساوق مع الاتجاهات الشعبوية للرأي العام في بلاده، ليظهر في هيئة الزعيم الذي يلبّي ما يطلبه الجمهور. وفي عهد ماكينلي (1897 ــ 1901) تعالت في الولايات المتحدة موجة تنادي بأن تكون أميركا إمبراطورية جديدة، لها ــ هي الأخرى ــ مستعمراتها المترامية، في ما وراء البحار.
واجبات الشرف تحتّم علينا أن نحتلّكم
بدأت الميول الإمبريالية في أميركا تظهر في أواخر القرن التاسع عشر، بعد أن تعافى الأميركيون من جراح الحرب الأهلية. وفي عام 1890، أقرّ الكونغرس اعتمادات لبناء خمس عشرة مدمّرة جديدة، وستّ بوارج عملاقة. وينقل الكاتب المصري محمد حسنين هيكل تصريحاً منسوباً، في تلك الفترة، إلى قائد البحرية الأميركية الأميرال ستيفن لوس، يقول فيه: “إنّ أميركا يجب أن تتحوّل، منذ الآن، إلى دولة حرب. لأنّ الحرب وحدها هي التي تمتّن وحدة الشعوب، وتكشف صلابة معدنها، وتنشّط هممها، وتفتّح عقولها، وتدعوها إلى حسن استثمار مواردها المادية والمعنوية”.
وبدأت أنظار بعض الساسة في واشنطن تتطلع، في بادئ الأمر، نحو أرخبيلات الجزر المنتشرة في البحار والمحيطات: غرباً في المحيط الهادي، وشرقاً في المحيط الأطلسي، وجنوباً في البحر الكاريبي. ووصلت الحماسة بقنصل الولايات المتحدة في مملكة هاواي، جون ستيفنس، حدّاً جعله يبادر – حتى قبل أن يأخذ إذناً صريحاً من رؤسائه في واشنطن – إلى السطو على مملكة هاواي، وافتكاكها من ملكتها ليلي أوكالاني. ففي ظهر يوم 16 كانون الثاني 1893، استغلّ القنصل ستيفنس رسوّ السفينة الحربية الأميركية “يو أس أس بوسطن” في ميناء هونولولو، ودعا بحارتها الأميركيين إلى الهجوم بأسلحتهم على قصر إيلاني الملكي في المدينة، ورفع علم الولايات المتحدة فوقه. ثم بعد أن اطمأن القنصل إلى نجاح تدبيره، أرسل برقية إلى رئيسه، وزير الخارجية جون فوستر، يعلمه فيها أنّ “مرة الكمثرى في هاواي قد نضجت، وأنه بادر بالفعل إلى قطفها”. وحينما علم القنصل أن الرئيس الأميركي غير مستريح لأسلوب الغزو الذي جرى به الاستيلاء على هاواي، كتب القنصل إلى رئيسه قائلاً: “إنّ واجبات الشرف تحتم علينا احتلال هذه الجزر، وأن نجعلها مِلكاً خالصاً للولايات المتحدة. وإذا لم نفعل نحن ذلك، فإنّ بريطانيا ستفعل”. ولقد كتب المؤرخ والدبلوماسي الأميركي جورج كينان، معلقاً على تلك الرسالة الوقحة، فقال: “منذ ذلك اليوم أصبحت تعبيرات من قبيل (واجب الشرف)، و(المهمة المقدسة)، و(الحتمية الضرورية) تعبيرات شائعة لتبرير مطالب القوة الأميركية”.
في يوم 30 نيسان 1898، جاء دور جزر الفيليبين لكي تنال “واجباتُ الشرف” منها. وعلى حين غرّة تقدمت قطع الأسطول الأميركي إلى خليج جزيرة كوريجيدور، ثم نزل بحارة الكومودور جورج ديوي، في ميناء مانيلا، واحتلوا المدينة، ورفعوا العلم الأميركي فوق أهم مبانيها. وبعد ذلك ببضعة أشهر، ادعى الأميركيون أنّ الفيليبين وكل ما عليها أصبحت مِلكاً شرعياً خالصاً لهم، فقد اشتروها قانونياً من إسبانيا مقابل 20 مليون دولار. ولم تتوقف الأطماع الإمبريالية الأميركية عند حدّ، فقد اتجهت إحدى مدمّراتهم صوب غوام. ولمّا كانت غوام جزيرة نائية منسية في المحيط الهادي، أرسل إليها الأميركيون مدمرة واحدة اسمها “تشارلستون”. وتلقى قائدها الكابتن هنري غلاس أمراً من قادته لكي يدور حول غوام ليعرف مقدار مساحتها، ويخمّن حجم القوات الإسبانية فيها. لكنّ غلاس قرر تجاهل الأوامر، واقتحم ميناء “سان لويس دابرا”، وأخذ يطلق نيران مدافعه على كل ما يجده في طريقه. ولم يردّ أحد من سكان الجزيرة الوادعة على النيران الأميركية. ثم بعد قرابة ساعة اقترب قارب صغير من المدمرة “تشارلستون”، وطلب البحار الذي يقود القارب أن يصعد على متنها. ووقف البحار العجوز أمام الكابتن غلاس ليقول له: “إنني أجيء إليك معتذراً، لأنّني لم أستطع أن أردّ على تحيتك. فليس في ميناء (سان لويس دابرا) طلقة واحدة نردّ بها سلامَكم”. واستغرب الكابتن غلاس من كلام هذا البحار الإسباني الخَرِف، ثم قال له بحدّة: “طلقاتنا ليست لتحيّتكم. ونحن لم نتجشم عناء المجيء إلى هنا لأجل أن نسلّم عليكم. نحن وأنتم الآن في حالة حرب. وعليك الآن أن تذهب إلى الحاكم العام لهذه الجزيرة ليأتي إلينا بنفسه، ويوقّع على تسليم هذه الأرض لنا”.
أريد أن أقصّ عليكم وحياً سماوياً ألهمني
إنّ من الإنصاف أن نذكر أيضاً أنّ هذا المشروع الإمبريالي الأميركي الجديد، وُوجه باحتجاجات في أوساط بعض المفكرين والحقوقيين والقانونيين الذين تحفّظوا من تصاعد النزعة العدوانية في الولايات المتحدة الأميركية، وتحوّل البلاد من طابعها الجمهوري التقليدي إلى طابع إمبراطوري مستحدث. وبرّر هؤلاء دعواهم بأنّ أميركا التي اتخذت لنفسها من الحرية شعاراً ومثالاً، لا يجوز لها أخلاقيّاً أن تصير مستعبِدة لشعوب أخرى تتخذ بلدانهم مستعمرات، وتجعل من أبنائهم مستخدَمين. ولم يطل هذا النقاش “الأخلاقوي” طويلاً في أميركا، فقد حسمه الرئيس ويليام ماكينلي، في اجتماع عقده، في أيلول 1898، مع وفد من القساوسة التبشيريين، فقال: “أريد أن أقصّ عليكم، أيها السادة، نبأ وحي سماوي ألهمني. إنني منذ أيام لم أنم الليل، بسبب التفكير في ما عسى أن نصنعه بتلك المستعمرات البعيدة. ولقد أخذت أذرع غرفة نومي، راجياً من الله أن يلهمني الصواب. ثم وجدت اليقين يحلّ في قلبي، والضياء يسطع في طريقي. إنّ هذه الجزر جاءتنا من السماء، ونحن لم نطلبها، ولكنها وصلت إلى أيدينا منّة من خالقنا. ولذلك لا يحق لنا أن نردّها، فردُّها سيكون جبناً، وقلة شرف، وتخلياً عن الواجب، وسوء تصرف، وتبديد. ثم إنّ من غير الملائم أن نترك هذه الجزر لحماقة وجهالة سكانها المحليين الذين لا يصلحون لتحمل المسؤولية. وإنّ واجبنا الأخلاقي هو أن نضمّ هذه الجزر إلى أملاكنا، وأن نعلّم سكانها الأصليين، ونرفع مستواهم، ونرقّي عقائدهم ليكونوا حيث تريد لهم مشيئة الربّ: إخوةً لنا تفديهم تضحية المسيح، كما فدتنا”.
وما لبث أن آمن عدد من أعضاء الكونغرس بنبوءات الوحي السماوي التي ألهمت الرئيس الأميركي ويليام ماكينلي لكي يضمّ إلى أميركا “ما وهبه الرب لها”. وحمل لواء التوسع الإمبريالي سيناتور من ولاية فرجينيا اسمه ألبرت بيفردج، خطب ــ ذات مرة ــ في الكونغرس قائلاً: “عليكم أن تتذكروا ما فعله آباؤنا. علينا أن ننشر الحرية في كل مكان، ونحمل بركاتها إلى الجميع. وعلينا أن نقول لأعداء التوسع الأميركي إن الحرية تليق فقط بالشعوب التي تستطيع حكم نفسها، أما تلك التي لا تستطيع، فإنّ واجبنا المقدس أمام الله يدعونا لقيادتها. إنّ النموذج الأميركي هو أنموذج الحق مع الشرف. ونحن لا نستطيع أن نتهرب من مسؤولية وضعتها على عاتقنا العناية الإلهية لنشر الحرية والحضارة. لذلك، إنّ العَلَم الأميركي يجب أن يكون رمزاً لكل الجنس البشري”. وفي تلك الفترة، وصل إلى أميركا الأديب البريطاني روديارد كبلينغ. وأراد هذا الرجل أن يدلي بدلوه، هو الآخر، في الجدال الحاصل بين دعاة الجمهورية ودعاة الإمبراطورية، منحازاً إلى المعسكر الثاني. فكتب قصيدة، جاء في بعض سطورها ما يلي:
“لا تنزعجوا من تحمّل مسؤولية من وقعت أقدارهم بين أيديكم.
سوف تجدون أنهم مخلوقات متعبة: نصف شياطين ونصف أطفال.
افهموا أنّ أميركا لم يعد بمقدورها أن تهرب من رجولتها.
تعالوا كي تمارسوا هذه الرجولة الآن، حتى وإن كانت نتيجتها جحود فضلكم.
اقبلوا، وتذرّعوا بالشجاعة والحكمة، وتعلّموا من تجارب من سبقوكم”.
وبالفعل، انتصرت أميركا لـ “رجولتها” (التي يجحد فضلها الجاحدون، على حدّ قول كبلينغ). وينقل المؤرخ الأميركي ستانلي كارنو في كتابه “في صورتنا: إمبراطورية أميركا في الفيليبين”، عن أحد أعضاء الكونغرس الأميركي الذين زاروا مستعمرة الفيليبين، بعد أن أخمد فيها جنود الولايات المتحدة ثورة شعبية، في عام 1899، قامت ضدّ المالكين الأميركيين الجدد، ما أدّى إلى القضاء على أكثر من مليون فيليبيني. ويكتب ذلك السيناتور قائلاً بانتشاء: “لقد اكتسح جنودنا كل أرض ظهر المتمردون عليها. ولم يتركوا فيليبينياً واحداً يعارضنا على قيد الحياة. ولم يعد في الفيليبين الآن من يرفض وجودنا، فلم نُبقِ من هؤلاء أحداً. لقد قتل الجنود الأميركيون كل رجل وامرأة وطفل سنه فوق العاشرة. ولم يبقوا على أسير ولا على مشبوه واحد. وكانت الأوامر الصادرة من القائد الأميركي العام الجنرال فرانكلين واضحة: “لا تبقوا على الأسرى، ولا أريد سجلات مكتوبة”.