ليس مثالاً..!
يُصر بعض المحللين والأكاديميين على اتخاذ لبنان مثالاً في كل شاردة وواردة كما حصل مؤخراً في الجدل حول سعر الفائدة على ودائع القطع الأجنبي..!
وقد أكدنا أكثر من مرة أن لبنان ليس مثالاً، وإذا أصر البعض على اعتباره مثالاً، فهو مثال سيئ جداً في الاقتصاد وتحديداً فيما يخص النقد والمال والمصارف..!
رأى البعض (أنه من المهم والمفيد جداً إصدار شهادات إيداع بالقطع الأجنبي وبالليرة السورية، لكن الأهم هو أن تكون معدلات الفائدة الممنوحة على هذه الشهادات منافسة وقادرة على جذب القطع الأجنبي، وخاصة أن بعض الدول المجاورة، مثل لبنان تمنح معدلات بحدود 6 – 7%).
حسناً.. الكلام النظري جميل جداً، ولكن استناده إلى لبنان كنموذج مثالي للاقتداء به هو سيئ جداً، بل في منتهى السوء..!
أما لماذا لبنان ليس مثالاً للعمل المصرفي فإليكم الأسباب:
أي إجراء أو قرار مالي تتخذه الحكومة يجب أن يحظى بموافقة المصارف وإلا لن يُنفذ، والمثال الأخير ما حدث في الشهر الأخير من العام الماضي حيث خضعت الدولة اللبنانية للمصارف ووافقت على رفع فائدة سندات الخزينة بمعدل ثلاث نقاط مئوية..!
لقد اقترح بعض الأكاديميين السوريين معدل فائدة على شهادات الإيداع بسعر 6 ـ 7 بالمئة اقتداء بلبنان..!
حسناً.. وزارة المالية اللبنانية خضعت للمصارف ورفعت سعر الفائدة من 7.5 إلى 10.5 بالمئة كي توافق على شراء سندات الخزينة الجديدة بالليرة اللبنانية..!
وبما أن بعض الأكاديميين مغرم باتخاذ لبنان كمثال.. فهل سيعدل من اقتراحه ويطالب وزارة المالية السورية بسعر فائدة على شهادات الإيداع لا يقل عن 10%؟!
أكثر من ذلك.. المصارف اللبنانية أصلاً كانت تتقاضى سعر فائدة 9.5% على شهادات الإيداع وليس 7.5% التي أقرتها وزارة المالية، وكان مصرف لبنان المركزي يتحمل الفرق بين السعرين، يشتري الشهادات من وزارة المالية بسعر 7.5% ويبيعها للمصارف بسعر 9.5 %..!
وهذا الإجراء من مصرف لبنان كان قائماً خلال السنوات الأخيرة، ما يعني أن الفائدة على شهادات الإيداع كانت دائماً أعلى من سعر فائدة وزارة المالية بنقطتين مئويتين أي 9.5%..؟
ما ترجمة ما كان يفعله المصرف المركزي اللبناني..؟
يعني أن المصارف كانت تقرض مصرف لبنان، والأخير يقرضها لوزارة المال، وبهذه العملية كانت المصارف تحصل على أكثر من نقطتين مئويتين إضافيتين من مصرف لبنان عوضاً عن الحصول عليها من وزارة المالية..!
واضطرت وزارة المالية اللبنانية أخيراً إلى رفع الفائدة رسمياً إلى 10.5%؛ لأن المصرف المركزي امتنع عن المشاركة في شراء السندات الجديدة التي تصدرها وزارة المالية ما لم يرفع سعر فائدتها..!
لعل السؤال الذي لا يطرحه الأكاديميون الذين يتخذون من لبنان مثالاً هو: لماذا رضخت وزارة المالية للمصارف..؟
الجواب سهل جداً، فمع زيادة الدين العام بالليرة اللبنانية إلى 73000 مليار ليرة في أيلول 2018، فإن الحكومة اللبنانية عملياً مفلسة، أو بالأحرى ليس لديها أية سيولة نقدية كافية إلى حد أنها لم تستطع تأمين السيول لتغذية اللبنانيين بالكهرباء لأكثر من ساعتين يومياً في الشهرين الأخيرين من العام الماضي..!
نعم.. وزارة المال اضطرت إلى زيادة أسعار الفائدة لأن قدرتها على توفير المال للإنفاق العام متوقف على استقطاب التمويل الذي تحصل عليه من سندات الخزينة بالليرة..!
وبما أن المبالغ الاحتياطية التي تملكها وزارة المال في حساباتها لدى مصرف لبنان تراجعت إلى نحو 3000 مليار ليرة فقط، فيما لديها حاجات مالية متواصلة قد تستنزف هذا الاحتياط خلال فترة قصيرة، تقلصت الخيارات أمامها إلى أمرين: الامتناع عن الإنفاق، والتوقف عن دفع الرواتب والأجور وسواها من الإنفاق العام، أو رفع الفائدة على سندات الخزينة إلى 10.5%..!
ونتائج هذه السياسة النقدية التي لا نجد لها مثيلاً في أي بلد أنها رفعت كلفة الدين العام وزادت من أرباح المصارف أكثر فأكثر..!
بعد كل ذلك ألا يحق لنا أن نستغرب إصرار بعض الأكاديميين والمحللين على اتخاذ لبنان كمثال نموذجي للاقتداء به في العمل المالي والمصرفي..!
علي عبود