بربط التاءات.. تختل الأبجدية
ذاكرة مغدورة، منقوصة مثقوبة، توصلنا بها الفاصلة الأولى إلى التجاهل المشهدي لسيرورة وصيرورة بلدي. معان بها وعليها مما به تعاني، فالتضمينات تكاد تكون حرة التأليف، لكنها مقتصرة، قصيرة في رسم التاءات في آخر كلمات التعريف.
يقف اللفظ وشواذ القاعدة منتصبا فوق منصة الحلم، مبنيا للمعلوم، مجهولا ونائبا عن حجارة معجونة بعرق الأيادي، وإشعاعات جبين للشمس رؤيته، أمام كلمة كانت تصير بهذا البنيان اسمها بلادي.
التاء المنقطة المربوطة بأكبال صانعيها، تترك ويتركون في مفاصل أزمانها خلوة الأوجاع من فاعليها، فهم ذاتهم الطغاة والغزاة والغلاة الذين يبقون نبالهم في كبدها، وخناجرهم في خاصرتها، ونيرانهم فوق جسدها، وأراهم وأراها ضمن هذه المشهدية الانتحارية، إني نفسي المرتبطة بها بحبل وريد الحب، معلقة فؤادي بأثيرها وهواء وجدها وحيز كينونتها في خلجاتي، لتتقطع أوصاله فوق تقاسيم حدود ودها وفيدرالية تضاريسها.
أرى وأشهد مما تبقى بها من رماد الركام، من مجازر الأشجار في خضم غابات عينيها، في سواحل البكاء فوق ركبتيها في بحور الدماء على ساعديها، طافحة بحزن وجلجلة آهاتي، في صدري صدرها أنا الحاضرة المعنية في حنايا مرفقيها، وها قد صارت دمعة في استعار المنادي، اختناق حنجرة الجنون بصمت الظنون وكيد الأعادي.
بلدي في ظلام الغزاة وما تبقى من هياكل عظامها، وتفكك أوصالها، حينما أراها وأرى عظمة الجد التاريخ وهو يجلد بسياط العرافين ويسلخ عن حبها جلدها، ويأكل حيا لحمها، ولحم أفرادها شواء أحادي.
يأتي الغزاة فتسير مراكبهم فوق عقول كتاب فيضها، وفوق تماثيل الإله في زمن ارثها الفادي. المفدى بتقطيع الرؤوس وتعتيم الضمائر وتصنيف وتدوين الأتون بين مخالب الطغاة وحكم الظلام، الغزاة وما بينهما من غلاة وناجين ونجاة من الظن إلى رياح الظنون، ليفسح العهر طريقه بصهوة الخلاء لكل أولائك المارون العابرون الغلاة الزناة المتاجرون بالأرواح، الرامين الزناد على زرقة السماوات قائلين متبجحين:
أهلا بكم ياغزاة في خلاء الوطن، اجعلوا من أرواحنا وأجسادنا جسورا لظلمكم، اجعلوها سهلا وامسحوا دمنا وتوقنا، وكناية عمرنا بالسيوف تارة، وبالجلادين واللحى، بالنياشين والعساكر، بالأقدام السوداء، والعباءات الفضفاضة من كل شيء إلا من الضمائر والحياة.
حرموا شرب الماء بتهمة الزنا، اختموها بتكبير الخمر في البوادي، اجعلوه مصبوغا بعهر أولاد الحرام والفساد، أمراء صعاليك الجنة في قصور محكومة محكمة موصودة مفتوحة على نار جهنم، تميز النبيل المثقف حرقا، والكتب المنيرة المستنيرة رجما، والأحرار صلبا، لتصير آلهة الخصب والحب مومسا بفجور اللغة وتكريم الفتنة، وتشريعها بفتنة مبتدأها قهر وخبرها زجر لكل صوت، قتل على التخمين، وتصريف بحجة الامتناع والتنوين، وتأويل التأويل لصلب المعاني لبلد كانت ترسم ألف ونون التكوين، بدايتها سر، وآخرها تاء تفتح للكون سمو الإله في كل طهر في حياتها باد، لتصير التاء مربوطة بآخرها لجلب آخرتها، ليصير كل نعم ظلما وشعارا للفناء عادي.
تاءات مربوطة تربط ولا تفتح للحب ولا للنور ولا للبحر ولا للسلام طريقاً، إنما توصد بوجهها كل مسير ووادي.
تختل بتاءات مربوطة الأبجدية في كنايتها، تتزعزع مفاصلها، يظل البحر غارقا بفراغه، لا يكفي لا اسم ولا كلمة من أجسادنا ولا تاريخنا ولا حرياتنا ولا حتى أسماءنا، لنعود للبدء من جديد لنرسم كلماتنا وحروفنا التي نغدقها كل فجر حيثما نحن كأننا هباء منثورا، أو ظلا مائلا في قعر قاع خفي لهوامش ما تبقى منا منها من ذواكرنا المخفية المشوهة المشوبة بتوصيف الكفر صدا، ردا، وعدا، وهداية من دمع لكل من بها بقي وصار لصمودها هادٍ.
رشا الصالح