دراساتصحيفة البعث

الصيادون الخائبون يقعون في المصيدة

عبد الرحمن غنيم
كاتب وباحث من فلسطين

ذهب ليصطاد فاصطادوه، وثبت أن حسابات القرايا غير حسابات السرايا ، وأن منطق القوة غير منطق الاستقراء، وأن من استند إلى جدار مائل لا بد وأن ينهار عليه الجدار وما هو لغايته طائل.
كل هذه المقولات هي من نتاج الحكمة الشعبية في بلادنا، وهي حكمة تشكلت من خلال تجربة الحياة على مدى آلاف السنين إن لم نقل عشرات الآلاف. ومع ذلك وجد في القرن الواحد والعشرين من يوقعون أنفسهم في شراك الخديعة، ومن يجلبون إلى أنفسهم عدا عن الهزيمة والخذلان عاراً وخزياً لا يمحيان، ولعلهم يجلبون على أنفسهم ما هو أكثر من الخزي والعار حين يجدون عروشهم تنهار.
قد يقال: إن محور المشكلة في أحد أبعادها الأساسية على الأقل، تمثل في ذهاب كل طماع أشر إلى الصيد في الماء العكر ، فما عاد يعرف وهو يلقي بشباكه أو بصنارته في الماء ما إذا كان هناك صيد منتظر، أو من سيكون من بين الصيادين الكثر من يحالفه الظفر. وهكذا اختلطت الأوراق وغطى الغمام الآفاق. ولكن دعونا نلاحظ أنه خلافا لما هو معتاد فإن الصيادين على اختلاف مشاربهم قد اجتمعوا مسبقا واتفقوا على أن يحملوا على فرائسهم حملة رجل واحد، وهكذا تبلور ” ائتلاف الثمانين ” ومن بعده ” تحالف الستين ” ، ودعونا نلاحظ أيضا بأن اللعبة – وخلافا لما عرفه تاريخ الحروب من الأساليب – بدأت بتعكير الماء، وتسميم الأجواء، وممارسة الإغواء ، واستقطاب الغاوين ، وأنه في هذه العملية جرى الجمع بين تبديد المال بسخاء وبين تزييف مقولات الدين .

زمرة الصيادين
ورغم خطورة هذا الأسلوب، والحصيلة الناجمة عن استخدامه لأول مرة في تاريخ الحروب، وهو الأمر الذي يفسر ما نجم عن استخدامه من جروح وندوب، إلا أن هناك جانبا آخر من اللعب لا يتعلق بتعكير الماء ، ولا بطبيعة المستهدفين بالصيد من الأحياء، وإنما يتعلق بزمرة الصيادين ، مجتمعين ومتفرقين. وهذه قضية لم تتكشف خفاياها منذ البداية، ولكنه كان لا بد لها وأن تتكشف في النهاية.
لنسلم بأن زمر الصيادين، وأن جمعهم ” ائتلاف الثمانين ” و ” تحالف الستين “، لم يكونوا من قالب واحد، ولا كانوا على قلب واحد، وإنما كانت لكل واحد منهم دوافعه الأنانية الخاصة التي وإن لم تحل دون مساهمته في حملة الصيد، إلا أنها جعلته يحاول إدارة النار على قرصه كما يقال، حتى وإن تسبب ذلك في إحراق أصابع شركائه.
لعل القطري حمد بن جاسم آل ثاني كان أكثر الصيادين صراحة ووضوحاً في الإقرار بهذه الحقيقة، حين قال بأنهم اعتقدوا أنهم نجحوا في اصطياد سورية، فراحوا ” يتهاوشون ” على الفريسة. و” التهاوش ” على الفريسة مفهوم، فهو يعني أن يأخذ كل صياد حصة ترضيه من الأرض التي جرى الإجهاز على أهلها.
هنا يجب علينا أن ننتبه إلى حقيقة أساسية، وهي أن سورية التي استهدفت لتكون فريسة لمجموعة الصيادين، هي في التحليل النهائي ، ليست القطر العربي السوري بحدوده التي نعرف، وإنما هي الوطن العربي كله بحدوده التي نعرف. فالتمكن منها كان ولا زال يعني التمكن من السيطرة على الوطن العربي وإعادة رسم خريطة هذا الوطن، كما أن التمكن منها كان يعني ولا يزال تجويف محور المقاومة، وما يترتب على ذلك من تمكين للكيان الصهيوني.
وهذا ما يفسر لنا الحقيقة القائلة بأن حملة الصيد لم تبدأ بسورية، وإنما بدأت بمصر وتونس وليبيا إذا اعتبرنا بأن مؤامرة ما أسمي”الربيع العربي” كانت بداية تلك الحملة، ولكن إذا نحن تعقبنا حملة الصيد منذ بداياتها، وجب علينا أن نتذكر الصومال والسودان والجزائر والعراق، بل وأن نتذكر أيضاً أفغانستان ويوغسلافيا السابقة والشيشان، وألا ننسى الاستهداف الطويل الذي تعرض له لبنان. فلا شيء من كل هذه الاستهدافات جاء بالصدفة. فكل حلقة من حلقاتها مهدت لحلقة أخرى، وما الحرب التي أثيرت بين العراق في عهد صدام حسين وبين إيران، أو الحرب التي يشنها التحالف السعودي على اليمن إلا ولها في مسلسل الاستهداف الشامل للمنطقة العربية ومحيطها الإسلامي مكان .
إن ما يعنينا هنا تحديداً هو الدور الذي أسند للصيادين الإقليميين في لعبة هي أكبر منهم أجمعين، واعتقاد هؤلاء الصيادين أنهم إذا أدوا الأدوار المطلوبة منهم سيكونوا من الوارثين، وهذا ما جعلهم عدا عن الحماس المنقطع النظير الذي أبدوه في عملية الصيد يفتحون خزائنهم لينفقوا عليها بسخاء مهما كان حجمه غير مبالين ، فأنفقوا على المخطط الشيطاني مئات المليارات من الدولارات وليس مئات الملايين .
الآن، وبعد أن فشل الصيادون في النيل من سورية، وبعدأن منيت محاولتهم لاصطياد اليمن بالإخفاق، وبعد أن قوض مخططهم الرامي إلى تقسيم العراق، وبعد أن منيت خططهم في استهداف لبنان بالخذلان، بات بوسعنا أن نفهم ما لم يقولوه حول دوافعهم للانخراط بحماس في حملة الصيد.

التخلي عن المناصب
أليست مسألة تستدعي التفكير أن نجد المساهمين الأوائل في حملة الصيد من الأعراب ومن بذلوا فيها الكثير، وقد عمدوا في لحظة ما إلى التخلي عن مناصبهم ببساطة ؟!
لقد رأينا هذا يحدث في قطر حين تخلى الحمدان: حمد بن خليفة و حمد بن جاسم عن سلطتهما وسلماها لتميم، ورأينا هذا يحدث في مملكة آل سعود حين تنحى الأمراء من أبناء سلطان عن المواقع الأهم ، ثم تنحى بعدهم متعب بن عبد الله ومحمد بن نايف ليتركوا مقاليد السلطة تتجمع بين يدي محمد بن سلمان! هل كان هؤلاء في تنحيهم مجبرين أم مخيرين ؟!
دعونا نسلم ونحن نحاول الإجابة على مثل هذا السؤال الصعب المتعلق بالنوايا أكثر مما يتعلق بالقدرة، لأننا نعرف أن المتنازلين في كل هذه الحالات كانوا في وضع الممسك بالقوة ، ولم يكونوا مطلقاً في حالة ضعف ، أن تفسير ما حدث له واحد من مدخلين:
-المدخل الأول: أن تكون الإدارة الأمريكية ، وهي الطرف الأقوى في اللعبة ككل ، قد طلبت إحداث هذا التغيير كجزء من المخطط الكبير الذي يتضمن اللعب حتى بأوراق اللعب ، فانصاعوا لإرادتها مستسلمين .
-المدخل الثاني: ويحدده عنصر الزمن الذي حدثت فيه التحولات ، وهو أن يكون المتنحون قد تخلوا عن مناصبهم راضين، لأنهم بمناصب أخرى أهم منها موعودون. فلا أحد يتنازل عن الإرث الذي بين يديه ما لم يكن واثقاً انه سيستبدله بإرث أكثر أهمية. ولا حاجة بنا أن ننتظر خروج أي واحد من هؤلاء ليعلن عن سر تنازله عن ” القوة ” التي بين يديه، أو بتعبير آخر، عن الصيد المحلي الذي بين يديه ما لم يكن قد استقر عنده الاعتقاد بأنه يستبدله بصيد أثمن منه ، وأن هذا الصيد البديل بات قوسين أو أدنى من أن يؤول مصيره إليه، وأن يوضع بين يديه .
إن كلام حمد بن جاسم عن “التهاوش” على الفريسة، أو بالأحرى على الفرائس ، يجب ألا يفهم إطلاقاً على أنه “تهاوش” على جثث الضحايا ، أو على ما خلفتهم حربهم القذرة التي لعبوا فيها دور الصيادين من البلايا ، فهم ليسوا هواة للوقوف على الأطلال. وإذا كانوا قد اعتادوا منذ بداية حملة الصيد أن يقولوا لأذنابهم “دمر ونحن نعمر”، فجعلوهم يشيعون الدمار والخراب غير عابئين ، فليست غاية الصيادين حتماً أن يكونوا لهذا الخراب وارثين ، وبالجلوس على تلته وإبقاء الحال على هذا المنوال هادفين ، بل كانت لهم من وراء انخراطهم في حملة الصيد الكبرى غايات أبعد، وهي أن يصيروا للأرض التي استهدفوها مالكين .
إنهم ليسوا أغبياء إلى الحد الذي يجعلهم ينفقون على عملية التخريب بسخاء، ثم يضطرون للإنفاق على عملية التعمير بسخاء أكبر بكثير، دون أن تؤول ملكية ما أنفقوا عليه في الحالتين إليهم ، وليس إلى عملائهم الصغار، الذين اعتادوا أن ينظروا إليهم بداية ونهاية بكل ازدراء واحتقار . ومن يفترض غير هذه الفرضية فإنه يفترض أنهم مجانين ، سيطر عليهم جنون الإنفاق فهم أسرى لمثل هذا النوع من الجنون. وحتى ولو كان هذا هو واقع الحال – وهو محال – فهل امتد جنونهم أيضاً ليشمل التنازل عن أدوات القوة والسلطان التي يمسكون بها، وعن المناصب التي يحتفظون بها، وعن الطموح بالصعود إلى مناصب أعلى منها، فما الذي جعلهم وهم الممسكون بأدوات القوة والسلطان، يظهرون فجأة زهدهم بمناصبهم ويتخلون عنها لصالح تميم أو ابن سلمان ؟!

“التهاوش”
علينا أن نتذكر جيداً حقيقة أنه يوم بدأت حملة الصيد لم يكن تميم في مقدمة المشهد ولا كان ابن سلمان قد اقتحم المشهد. فالذين بدأوا حملة الصيد، ووجدوا أنفسهم في لحظة ما “يتهاوشون” على الفريسة وقد ظنوا أنهم تمكنوا منها، هم الذين تنحوا في لحظة ما مختارين، ولتقاسم حصصهم من الفريسة منتظرين، وكانوا بالوصول إلى غايتهم واثقين. وكان عليهم في تلك اللحظة الزمنية أيضاً أن يضيفوا إلى فرائسهم في الشمال فريسة في الجنوب، فكانت “عاصفة الحزم ” جزءاً من حملة التمزيق والقضم.
حين ننظر إلى الأمور بهذا المقياس ، نفهم أن تنحيهم لم يكن زهداً بالمناصب ، ولا تخلياً عن المكاسب، بل كان من أجل مناصب أكبر ومكاسب أكثر. فالمخطط الشيطاني لبناء “الشرق الأوسط الجديد” كان يقتضي إعادة رسم خريطة المنطقة. وكانت خطة إعادة رسم الخريطة تطال حتى الأطراف التي أسهمت في حملة الصيد، ومنها مملكة آل سعود. ولكن من هم أجدر عند إعادة رسم خريطة المنطقة في أن يكونوا السلاطين المعتمدين من أولئك الذين نفذوا حملة الصيد وأنفقوا عليها بسخاء طائعين ؟!
إن ما قاله حمد بن جاسم بعظمة لسانه، وذلك في مكالمة هاتفية بينه وبين العقيد معمر القذافي، قبل أن يحولوا القذافي إلى ضحية لمخططهم، عن كون مشيخة قطر قد وعدت بضم الجزء الشرقي من مملكة آل سعود إليها، يعني أن المنطقة ككل كانت تنتظر التقسيم ومن ثم المحاصصة. ومجرد الحديث عن المحاصصة يفرض علينا التفكير بمن ستؤخذ منهم التركة ومن ستؤول إليهم، وكيف ستوزع الحصص. ولا تظهر أن هناك ما هو غامض في هذه القصة. فالمستهدفون جرى استهدافهم كلياً أو جزئياً بالفعل، وإن كان فشل المخطط في أهم حلقاته قد حجب الاستهداف الذي كان مبيتاً لبعض الحلقات، وأما شركاء المحاصصة فقد كان انخراطهم في تنفيذ المخطط كافياً لكشفهم، ولكن هذا الانخراط في التنفيذ لا يعني مطلقاً أنهم كانوا على وفاق كامل فيما بينهم حول تقسيم التركة. وهذا هو حصراً سر التهاوش، وسر انقلابهم على قطر.
إن أقل قدر من التفكير لا بد وأن يقودنا إلى التسليم بأن التوافق بين هؤلاء كان يخفي ما بينهم من تنافس ، وأن الأطراف المتنافسة الأساسية كانت منقسمة إلى ثلاث كتل أساسية: فهناك أولاً أس المشكلة وأساسها ، وصاحب المخطط الشيطاني الذي سخر في خدمته آخرين، وهو الكيان الصهيوني الذي تتمثل غايته في تمكين إسرائيل من التوسع بين الفرات والنيل. وهناك ثانياً كتلة المتورطين من دول مجلس التعاون الخليجي وغايتها أن ترث من خريطة المنطقة ما يجود به عليها أصحاب المخطط الشيطاني، وهناك ثالثاً كتلة جماعة “الإخوان” ومن ورائها أردوغان، حيث جرى إيهامها بأنها ستكون أول الوارثين وقادرة على إحياء سلطنة آل عثمان ، وقد انتهى الوضع بإمارة قطر لأن تكون جزءا من هذه الكتلة الثالثة ، ليس فقط بسبب علاقتها الخاصة مع “الإخوان” فقد كانت للسعودية مثل هذه العلاقة الخاصة معهم كما هو معلوم، ولكن لأن طموحها في أن تنفرد بجزء من الفريسة أو التركة لم يكن عند شركائها الخليجيين بالمهضوم.

فشل المخطط الشيطاني
إن فشل المخطط الشيطاني في الوصول إلى غايته الأساسية قاد بشكل طبيعي إلى شعور جميع أطرافه بالإحباط، وإن كان هذا الشعور بالإحباط لم ينه المحاولة للبحث عن بدائل لضمان استمرار المحاولة. وهنا علينا أن ننتبه إلى الفارق الجوهري بين كيفية تعامل صاحب المخطط الشيطاني الأساسي مع الموقف، وهو يرى هزيمة شركائه الآخرين وعجزهم عن إيصاله لبغيته، ليتجه في حساباته نحو استهداف روسيا وإيران باعتبار أنهما من الأطراف الأساسية التي أسهمت في إحباط الخطة الشيطانية، وبين سلوك الكتلتين الخليجية و”الإخوانية”. فالفشل أدى بشكل منطقي إلى أن تتقطع بهذه الأطراف السبل. وإذا كانت هناك محاولات يقوم بها البعض ليوجد لنفسه متكأ على الأرض، فإن هذه المحاولات هي محاولات البائس الذي يتصرف تصرف اليائس وهو يعلم أنه ما من صيد يحظى به وما من فرائس.
ولعل المحور الأساسي للمشكلة التي يعاني منها “الصيادون” الآن، عدا عن فشلهم في حربهم على سورية واليمن، يتمثل في انهيار محاولتهم لشل فعالية العامل الفلسطيني في الصراع، وانفجار الوضع في الأرض المحتلة ، مما وضع صاحب المخطط الشيطاني ممثلاً بالكيان الصهيوني في مواجهة انتفاضة جديدة، وأعاد بوصلة الصراع في المنطقة إلى اتجاهها المنطقي المتمثل بمواجهة العدو الصهيوني والمتواطئين مع هذا العدو، خاصة وأن هؤلاء المتواطئين قد كشفوا أوراقهم خلال السنوات الأخيرة وفضحوا اصطفافهم إلى جانب هذا العدو.