بُرْدَةُ الناصري
د. نضال الصالح
وذاتَ لقاءٍ، أهدتني إيفا “لفحةً” لأتقّي بها طيشَ البرد كما قالت، ثمّ، وهي تحيطُ عنقي بها، تابعتْ: “وعصْفَ الاشتياق، وزمهريرَ الشغف”، وأكملتْ وخدّاها يتّقدان بحُمرَةٍ شفيفة تزيدُ حنطَتها سِحْراً على سِحْر: “احمِها بعينيك كما تقول دائماً”، فارتعشتْ عيناي كما يخفقُ قلبٌ مِن صبابةٍ، وقلت: “كيف لا يا إيفا؟ كيف؟ كلُّ شيءٍ منكِ روحٌ”، فثلّثتْ، ثمّ أحاطتني بمطلقِ ساعديْها، ثمّ لم أكد أتوضّأ بأوّلِ غيْثها، حتى استعدتُ ما كانَ شاعرٌ قالَ عن نار استدفأ بها: “زهراءُ قَدّتْ لنا من دفئها لُحُفاً… لم يعلمِ البردُ فيها أينَ موضعُنا”.
وذاتَ آخرَ، قالتْ إيفا لي: “وإنْ ازدحمَ على باب روحكَ بردٌ، فاستعدْني، وعدّدْ، فيباركك الناصريُّ بالطمأنينة”، فعدّدتُ: “وكانَ تكلّمَ في المهد، وكانَ ينفخُ الروحَ في الميت من الطير، فيحيا، وكانَ يمسحُ على عينيّ الأكمه، فيبصرُ، ويمرّرُ أصابعَ يديه على الأبرص، فيبرأ”. وفيما أعدّدُ، أغمضتْ عينيها كأنّما نأتْ بروحها وجسدها عن الزمان والمكان، وأومأتْ أنْ أصغيَ، فأصغيتُ: “ومرّ، يوماً، بصيّادي سمَكٍ، فدعاهم إلى المضيّ معه ليصيدوا الناسَ ويدعونهم معه إلى رسالة السماء، فطلبوا منه دليلاً على أنّه رسولٌ بحقّ، فأمرَ شمعونَ، أحدَهم، بأن يلقيَ شبكتَه في الماء، وكان أمضى يوماً من دون أن يصيدَ سمكةً واحدةً، ولمّا فعلَ امتلأتِ الشبكةُ بالأسماك”، وأكملتْ: “وكان آخرون قالوا له: إنك تحيي مَن كان موته قريباً، فأحي سامَ بنَ نوح، فطلب إليهم أن يأخذوه إلى قبره، فدعا يسوعُ سامَ، فخرجَ سامُ من القبر، وكان مضى على موته أربعةُ آلاف سنة، وقال سامُ لهم: صدّقوه، فإنّه نبيّ، فصدّقه بعضٌ، وكذّبه آخرون”.
وذاتَ ثالثٍ، وشأنَ إيفا حين يُرهقُها ظمأ، وجوعٌ، وتعبٌ، فتُلصقُ ما تكابدُ مِن رهَقٍ بي وهي تضحكُ، مضينا إلى مطعم “برويا” المطلّ على قلعة حلب، وقبلَ أن تسأل، قلتُ: “اسمُ حلب منذُ المئة الثالثة قبل الميلاد، وظلّت تحملُ هذا الاسم طوال عصور”، وما كدتُ أمضي في التوضيح، حتى ضيّقتْ إيفا عينيها، وأسرعتْ في القول: “بل حلب، وحلب تعريبُ حلبا السريانية، التي تعني البيضاء”.
وليلةَ الميلادِ التي مضتْ، قبل ما يزيد على سنتين، وكنتُ هتفتُ إلى إيفا مهنّئاً بالميلاد، ولم تكد تسألني عن حلب، حتى سمعتُني أحشرجُ: “يكادُ البياضُ يصيرُ سواداً يا إيفا، يكادُ. حلبُ التي تعرفينَ، تداعى عليها أبناءُ الشرّ من جهاتِ الشرّ كلّها”. وسمعتُ إيفا ترتّلُ، وتبكي حتى يكاد صوتُها يختنقُ: “إِنَّ ابنَ الإنسانِ مَاضٍ كما هو مكتوبٌ عنهُ، ولكنْ ويلٌ لذلك الرجلِ الذي بهِ يُسَلَّمُ ابنُ الإنسان”.
الليلة، ستنتهي السنةُ، وما لن ينتهي، ولن يصبح ماضياً، روحُ إيفا البعيدة القريبة. رفرفاتُ ضحكاتها التي تعطّرُ روحي بقرنفُلِ روحها. وغداً، سأصرخُ ملءَ روحي: “يا إيفا برْدٌ”. وستسمعُني إيفا أنّى كانت، وستحيط روحي بلفحةٍ من روحها، وستصيرُ اللفحةُ بُردةً، وستمتدُ، من حيثُ لا أرى، يدان من غير سوءٍ، وستدثّرني بالبُردة، ومن الجهات كلِّها سينهمرُ صوتُ يسوع: “اللهُ محبّةٌ، ومَنْ يثبُتْ في المحبّة يثبُتْ في اللهِ واللهُ فيه”.