ثقافةصحيفة البعث

حدث داخل المقهى

كأس من الشاي الأحمر وقطعتا سكر وطاولة ترسم بينهما حدودا خشبية، كان يجالسها وهي بحضرته لها كل الحديث والنظرات والتعابير التي تلعب بحركات الوجه على مزاجها فترفع حاجبا أو تخط خطوطا على الجبين. كل الوجوه هي وكل الحاضرين والغائبين، ملكة الجلسة وحاكمة الوقت والتاريخ، بيدها عصا سحرية لقلبه، إن حركتها, مال مع اتجاهها هي فقط دوناً عن الجهات كلها.. إنها الجهة الخامسة.
الطقس يعصف كالمجنون في الخارج وهما داخل المقهى الذي يطل على الوادي، يحيط بهما الدفء المنبعث من المدفأة المشتعلة بجوارهما، تلتهم الحطب بلذة وتكاد تسمع صوت انكساره، موسيقا تعزف بلا إيقاع محدد. الجو مزدحم والطاولات يشغلها الشباب بضحكاتهم ودخان سجائرهم التي لا تنطفئ إلا للضرورة وبعض الطاولات التي يلعب الصغار حولها، يركضون ويركضون غير مبالين بالبرد أو الأزمات المتربصة بهم وبمستقبلهم إلا طاولتهما، يشغل بالها حديث مهم على ما يبدو لا علاقة له بأي حدث سياسي أو اقتصادي ولا بما تمر به البلاد.
كان يظهر من خلف الستار الخشبي المفرّغ أما هي لم تكن كذلك، رأيتها في عينيه، يبوح لها ويبتسم، يهز برأسه ويغير حركة جلوسه كلما تعسرت اللغة في طريقه وكان يحك أنفه أحيانا وكأنه يخفي ارتباكاً لابدّ منه. نادى النادل “من فضلك كأسين إضافيين من الشاي وليكن مخمرا وثقيلا” ثم عاد إلى عالمه وعادت عيناه للضحك مرة أخرى، يبدو أن الحديث لم ينته بعد ولن..
مرت ساعة وساعتان وهو على حاله، يطلب المزيد من الشاي ويسرد الحكايات لأجل خاطرها.. هي جمهوره الوحيد، تستمع فقط دون أن تحدث صوتا أو حركة، ربما ستصفق في النهاية أو تحضنه بعد كل ما باح به، لكنها لم تكن شهرزاد هذه الليلة. توقف المطر في الخارج وبدأت الطاولات تفرغ من زبائنها، الساعة تدق معلنة التاسعة ويبدو أنهما يستعدان أيضا للمغادرة، لقد أشار للنادل بيده “الحساب”. إنها فرصة جميلة أن نتعرف على شريكته في هذه الجلسة، الآن ستقوم من مكانها وتمر من أمامنا، تسبقها نظراته لكي تفرش الأرض لها وردا، يليق بسيدة مثلها كل هذا الدلال، صحيح أنها غريبة حتى الآن ولم يظهر أي جزء من تفاصيلها بسبب الساتر الخشبي، لكن عينيه فضحتا كل شيء. دفع الحساب ونهض، نفض ثيابه وابتسم ومشى. أين هي؟ إلى أين ذهبت؟ أيعقل أنها مرت خلسة، لا..لا إطلاقاً، من غير الممكن أن يحدث هذا، كل العيون تترقبها أو على الأقل عيوني أنا.
كان النادل يتمتم “آخ منك.. ألن تملّ المجيء كل يوم.. يا رب ثبت علينا نعمة العقل”. الآن فقط عرفت أين ذهبت وأي طريق سلكت تلك التي تركت وراءها رجلا بلا أي أثر وبلا أدنى رغبة في البقاء على خانة العاقلين في هذه المدينة، لكنه ومع ذلك لم يفقد وعيه بها، لقد كان يجالسها قبل قليل ويحكي لها ما يريد رغما عن أنف الحياة.

ندى محمود القيم